قضايا وآراء

طبخة كيري.. التوقيت والدلالات

طارق حمود
1300x600
1300x600
لم يأتِ جون كيري في خطاب استمر لساعة وست دقائق من مبنى وزارة الخارجية الأمريكية بجديد من حيث المضمون السياسي لمقترحات الحل السلمي للقضية الفلسطينية. لكنه بكل تأكيد جاء بلغة جديدة لم يعتدها الإسرائيليون من حليفه الأمريكي. وبالرغم من كون الأسابيع الثلاث المتبقية لكيري وإدارة أوباما في السلطة تجعل من كل ما جاء به مسألة عبثية،  إلا أن الخطاب بما حمله من تصور شامل للحل النهائي يحمل في طياته أموراً لايمكن تجاهلها.

لقد جاء خطاب كيري في مرحلة لايمكن لإدارة أوباما أن تجهل أزمة توقيتها، ولذلك فإن مقترحاً أمريكياً في الملف الفلسطيني الإسرائيلي من الصعب تصوره مجرداً من حسابات بلا قيمة. فمن ناحية السياسة الخارجية الأمريكية، فإن الدور الراعي لعملية السلام شابه الكثير من النقص والانتقاد على مدار عقود. وهو ما شجع وجود أطراف دولية أخرى متحمسة لدور ما في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. المبادرة الفرنسية التي طرحتها باريس ولم تلقَ دعماً إسرائيلياً تحولت إلى رؤية أوروبية بعد دعم دول الاتحاد لها. وكون المبادرة مقبولة فلسطينياً (ليس لديهم غير ذلك) والولايات المتحدة شبه غائبة عن هذا الملف، فبدا أن الفرنسيين حثوا الخطى للمضي قدماً باتجاه إحيائها، وهو ما تستعد باريس بالفعل له في المنتصف من الشهر القادم في 15 كانون الثاني 2017 من خلال استضافة قمة تجمع ما يقرب من 70 دولة على مستوى وزراء الخارجية حول السلام في الشرق الأوسط. من هذه الزاوية فإن الولايات المتحدة تحاول استباق مؤتمر باريس القادم بإطار شامل لحل القضية الفلسطينية كي لايخرج عن العباءة الأمريكية ورعايتها التقليدية لعملية السلام. ما يدعم هذا الافتراض هو اللغة المتقدمة ضد إسرائيل في خطاب كيري، والنقد الواضح والمباشر حول مسؤولية إسرائيل في تعطيل حل الدولتين، فيما كانت الإشارات السابقة في غالبها تشير للاستيطان بشكل مجرد. وهذا يقترب من الخطاب الأوروبي وصيغته السياسية تجاه مسألة الاستيطان وإسرائيل وعملية السلام في المنطقة، ويجعل من المحاكاة الأوروبية للمقترح الأمريكي أمراً لامفر منه بعد قرابة الأسبوعين في المؤتمر المنتظر. 

من ناحية أخرى فإن الخلاف بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو لايمكن تجاهله. فرد الاعتبار بعد مسلسل طويل من الشتائم الإسرائيلية لإدارة أوباما وموقفها أيضاً هو تفسير قائم، خاصة أنه يخرج من إدارة توضب حقائب الخروج من البيت الأبيض. وبالتالي فإن الخسائر المتوقعة ليست ذا أثر فاعل بعد انتهاء الانتخابات لغير صالح الديمقراطيين. يضاف إلى ذلك القناعة الأمريكية بيمينية الحكومة الحالية التي يقودها نتنياهو كعقبة في وجه تطوير علاقة أكثر سلامة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذه القناعة بطبيعة حكومة نتنياهو وردت بتعبير واضح في خطاب كيري، بما قد يترك أثراً ما في ائتلاف نتنياهو الحاكم. 

التخوف العام في الولايات المتحدة الأمريكية من انفلات في السياسة الخارجية لإدارة ترامب المقبلة هو أيضاً أمر ذو اعتبار مهم في توقيت الخطاب ومضمونه. فمن شأن طرح تصور أمريكي لسلام فلسطيني - إسرائيلي أن يضع قيوداً ما على ترامب. إذ ليس متوقعاً أن يقدّم الرئيس الأمريكي الجديد رؤية أخرى أو مختلفة جذرياً، ويبقى الاحتمال الأرجح هو في عدم تنفيذه لهذه الرؤية في سياق عدم الاهتمام المتوقع لترامب في الملف الفلسطيني الإسرائيلي خلال فترته المقبلة. وهذا أيضاً ينسجم مع تخوفات عامة من تصاعد التصريحات حول إمكانية تنفيذ ترامب لقرار الحكومة الأمريكية في نقل سفارته إلى القدس وما يمكن أن يحمل هذا من تداعيات. من هذا الجانب فإن تقديم تصور أمريكي للسلام سيضع ترامب أمام خيارات، إما رفض هذه الرؤية، وهو أمر غير محتمل إذ سيكون مطلوباً منه تقديم بديل عنها، أو قبولها حتى لو من غير إعلان، وهذا الأخير يستلزم عدم نسفها بالتسرع في نقل السفارة إلى القدس قبل توقيع اتفاق يفضي إلى وضع نهائي للمدينة. هذا التفسير يعززه تكرار جون كيري في خطابه لعبارات متعددة تحدثت عن التزام الإدارات السابقة بشقيها الجمهوري والديمقراطي بوضع القدس الشرقية على أنها تحت الاحتلال، وبالموقف العام من الاستيطان والإطار السياسي لعملية سلام على أساس حدود العام 1967، وكأنه يوجه خطابه مباشره للجمهوريين والإدارة المقبلة.

التفسيرات السابقة تجعل من خطاب كيري موضع اهتمام ما على الصعيد الأمريكي والأوروبي والإسرائيلي، وبغض النظر كيف سيقرأ كل طرف هذا الاهتمام سلباً أو إيجاباً. لكن الخطاب بالمطلق لايعطي اهتماماً ما بموقف الطرف الفلسطيني أو يحاكيه من زاوية ما. هل هناك من معطى فلسطيني يجعل الخطاب يخرج بهذا التوقيت وهذا المضمون؟ للأسف لم يظهر حتى الآن أي تفسير يعطي السلطة الفلسطينية أي تأثير في صياغة خطاب أمريكي يضع رؤية واضحة ومفصلة للحل النهائي. القراءة الوحيدة التي يمكن رؤية الفلسطينيين فيها في هذا الخطاب هو التصفيق اللاحق والاحتفالية المهزومة للسلطة.

أمام ماتقدم فإن الخطاب الذي يحمل معطيات تفسيرية من كل جانب على المستوى المحلي الأمريكي أو الدولي أوروبياً وإسرائيلياً لم يطرح رؤية أمريكية للحل بناءً على معطيات الصراع نفسه وتطوراته، أو كما قال كيري نتيجة وصول خطر الاستيطان إلى مرحلة يهدد فيها حل الدولتين، فهذا تم بدعم أمريكي كانت إدارة أوباما فيه الأكثر سخاءً بـ 38 مليار دولار مساعدات أمريكية لإسرائيل. ويكفي أن تكون الرؤية الأمريكية قائمة على معطيات سياسية داخلية أو توازنية في العلاقات الأوروبية والإسرائيلية حتى يقال أنها رؤية غير قابلة للتطبيق الجاد، فضلاً عن أن تطبيقها لن يحقق السلام المنشود مع شطبها لحقوق أكثر من 7 ملايين لاجئ فلسطيني بالعودة. بمعنى أن الأطراف الدولية لم تتعلم من دروس الفشل التي امتدت منذ أوسلو إلى اليوم في كون من سيوقع أي اتفاق يحتاج لأن يكون صاحب تمثيل شامل حقيقي وديمقراطي يشمل كل الفلسطينيين في الداخل والخارج، وبدون ذلك فإن كل ما يطرح اليوم من واشنطن إلى باريس ليس أكثر من طبخات حصى. 
0
التعليقات (0)