كتاب عربي 21

ما الذي يهمّنا ونحن نراقب تركيا؟!

ساري عرابي
1300x600
1300x600
الأسباب متعددة لانشغالنا نحن العرب بالاستفتاء التركي الأخير، وبأي شأن تركي شبيه أو ذي طبيعة استقطابية، إلى درجة تصيبني بالملل في حال بدأتُ بسرد شيء من تلك الأسباب، لكن لا يسعني إلا القول إنه لا بد لنا أن نراقب التحولات الجارية في هذا العالم، فكيف بتلك التي على تخومنا، وفي بلد جمعنا معه تاريخ طويل وعريض وعميق، وصعدت فيه تجربة تهمّنا من أكثر من وجه، وأخيرًا صار منغمسا في قضايانا، القريبة منه، السورية والعراقية، والبعيدة، ويستضيف عشرات الآلاف منّا!

بلد حائر في جغرافيته وفي تاريخه وفي هويته وفي دوره منذ أن تخلّص من إهاب الإمبراطورية العثمانية، وبلد قلق، حتى أقل من عام واجهت القوى المدنية الحاكمة فيه انقلابًا عسكريًّا بدا على وشك إسقاط الحكومة واغتيال أو اعتقال الرئيس الذي أخذ يدفع تحولات البلد منذ خمس عشرة سنة، يبني على ما راكمه الذين سبقوه ممن ظلّوا يحاولون صياغة طمأنينة ما لهذا البلد.

بلد، والحال هذه، لا بدّ وأن يعاني الاستقطاب الحادّ، ونحن وإذ نراقبه لا بد وأن ننقسم في مواقفنا وآرائنا إزاءه، وأن نطوي على آراء سخيفة وساذجة، أو وقحة من قبيل أن يعظ أنصار السيسي وبشار الأسد محذرين من ديكتاتورية أردوغان المحتملة، وأن نستغرق في نقاشات نظرية حول الديمقراطية والنظام الرئاسي الفائز بالاستفتاء وميزاته وعيوبه، لكن المؤكد أن كل مشكلاتنا وافتراقاتنا ستنعكس بالضرورة على فهمنا لما يجري في العالم الذي نراقبه، وفي تركيا تحديدًا القابعة على تخومنا، وبقدر ما فينا من عيوب، وحيرة، ومشكلات لم تحلّ، وصراعات لم تحسم، بقدر ما سينعكس ذلك على مواقفنا.

هذه النقاشات وعيوبها هي عَرَض، أما الجوهر فهو مشكلاتنا وصراعاتنا، ولا معنى إن كان الأمر كذلك؛ أن ننشغل بنقد العَرَض، مع الأهمية المؤكدة بطبيعة الحال لتصحيح معلوماتنا وإنضاج أفكارنا حول الموضوعات التي نناقشها، والتي منها مسائل الديمقراطية وتركيا التي نراقبها، أما الجوهر فهو السؤال المركزي عن ماهية مشكلاتنا وصراعاتنا وكيفية حسمها.

بالنسبة لي أنا العربي، ربما أنا العربي الذي لا يحسن اللغة التركية، ولم يدخل تركيا ولو مرة في حياته، ولا يظن أنه سيزورها يومًا، أنا العربي المنشغل بالشأن العام، المهموم بمشكلاتنا، المهموم إلى درجة دفع الثمن، إن من حياتي، أو أمني، أو رزقي، أو حتى من أعصابي وراحة بالي، ما الذي يهمني في ما يجري في تركيا، إن لم يكن متصلاً بسؤالي المركزي وبجوهر ما أعانيه؟! هل يسعني غير ذلك؟! هل يسعني أن أدير اهتمامي على مسائل نظرية، أو اعتبارات مثالية، فحسب؟!

هؤلاء النّاس الذين يناقشون الموضوع التركي، بكل تلك الحرارة والحماس والاستقطاب والتنظير، من موقع غير موقع سؤالهم المركزي وهمّهم الجوهري؛ لا أدري إن كانوا يستحقون الغبطة لقدرتهم على الإنكار والاغتراب عن واقعهم، أم يستحقون شعورا آخر.

يُستثنى من ذلك طبعًا الانشغالات المهنية؛ الإعلامية والأكاديمية، والمعرفية الرصينة، أما أن يترك بعضنا كل تعلق للموضوع التركي بنا، ثم ينصرفون لذلك الاستبسال النظري في دعم أي من الأنظمة الدستورية التي يدور حولها النقاش، أو في التحذير من سلطوية أردوغان القائمة أو استبداده المحتمل، فهذا عجيب!

باستثناء أنصار الطغاة الذين لا يعدو أن يكون نقدهم الأخلاقي لأردوغان وتجربته ادعاء زائفًا ومؤسسًا على انحيازات سياسية مغرضة، فإن المسؤولية الأخلاقية في مقاربة التجربة التركية الجارية ضرورية بلا شك، ولكن ينبغي ألا تكون المدخل الوحيد إلى الحالة التركية، لاسيما وأن المسائل النظرية والمخاوف التي تتصل بها تدور في حقيقتها على تفاصيل أكثر مما تدور على كليات، وتتحسب من مخاوف أكثر مما تنقد وقائع جدّية.

ليس ثمة تناقض، النقاش حول الموضوعات النظرية ومسائل الديمقراطية وأنظمتها وإجراءاتها، والأفكار المقترحة لمعالجة جدلية تعاطي المسلمين من إيمانهم بالإسلام مع معطيات الحداثة والوقائع التي أوجدتها؛ كل ذلك مهم، ومهما بدا في كثير من الأوقات مفارقًا لسؤال اللحظة، فإن مراكمته ستكون مثمرة في وقت ما، لكنها أبدًا لن تكون مثمرة ما لم نحسم فعليًّا وواقعيًّا صراعاتنا بانتصارات واضحة أو تسويات حقيقية.

أنا مثلاً من فلسطين، سؤالي الجوهري هو سؤال التخلص من الاستعمار، ومع ضرورة النقد الأخلاقي للفاعلين في ميدان المواجهة، بما في ذلك فصائل المقاومة، فإن مسائل الحريات والديمقراطية من جهة اتصالها بموضوعة الحكم طارئة وغير أصيلة على قضية التحرر، فإن لم تكن مقاربتي للحدث التركي من موقعي المشغول بالتحرر من الاستعمار فماذا تكون؟!

قل الأمر نفسه عني أنا العربي الذي يواجه ثورة مضادة وحشية، ويعيش زمنًا تتشابك أحداثه وبلدانه وبشره بما لا يمكن فصله وفك شيء فيه عن الآخر؛ كيف لي أن أقارب الحدث التركي من موقع لا ألاحظ فيه، أو لا أمنح فيه، الصراع مع الثورة المضادة، الاعتبار اللازم!؟

إذا كانت تركيا بلدًا مشرقيًّا مسلمًا، ومهما كانت سياقاته وملابساته الخاصة، تشهد صعودا لتجربة، تنهض بالبلد، وتسعى لاستعادة إرثه الحضاري والتاريخي بما يجعل هذا البلد أكثر شبهًا بنا واقترابا منّا، وكانت قيادة هذه التجربة، وبلا أي أوهام أو مبالغات حمقاء أقرب إلينا في مواجهة الثورة المضادة أو حتى في الموقف من الكيان الصهيوني من أي بديل تركي آخر، وكانت هذه القيادة في الوقت نفسه لا تثقل ضمائرنا ولا تجرح حسّنا الأخلاقي بما يشين من الجرائم والسلوكيات المعيبة؛ فإن البدهي هو أن ندعم تلك التجربة، مهما كان لنا من تحفظات جدّية عليها، أو ملاحظات تفصيلية.

لقد كتبتُ في نقد أردوغان حتى ظنّ البعض أنني متحامل عليه، ودعمته في كتاباتي حتى ظنّ بعض آخر أنني أفعل ذلك عصبية مظنّها العمى الإيديولوجي والضيق الحزبي، مع أنني في كلا الحالتين كنت أفعل من ملاحظتي لموقعي الفلسطيني والعربي والمسلم، وتداخل موقعي هذا مع الشأن التركي.
إن العامل السياسي كان دائمًا حاضرًا هنا، دون أن يخلو من حمولات أخلاقية ونظرية ومبدئية في نقد التجربة التركية، أو في نقد الدعوات الساذجة لاستنساخها ونمذجتها دون أن تمنح الاعتبار لحدّ أدنى من الاختلافات والفوارق وطبيعة السياقات والملابسات الخاصة.

إن مراقبة التجربة التركية للتعلم والاستفادة، كما مراقبة أي تجربة أخرى، مطلوب، وما هو مطلوب أكثر الوعي النقدي بها، وإنضاج النقاش النظري ومراكمته مطلوب، ولكن ذلك كلّه في إطار السعي لتدعيم جبهتنا، وتقوية صفنا، وإسناد موقفنا، وممارسة دورنا في خدمة قضايانا وثغورنا التي نؤتمن عليها.
0
التعليقات (0)