قضايا وآراء

مناطق خفض التوتر حلقة في سلسلة القضاء على الثورة وأهلها

1300x600
الفرق بين روسيا وإيران وبقية اللاعبين في سورية أنهما تعرفان ماذا تريدان بالضبط وتديران جهودهما واعمالهما وفق إستراتيجية متكاملة، في حين أن اللاعبين الأخرين" عرب وعجم" يتعاملون مع المسألة السورية بمنطق هواة أو ممارسة ترفيهية للتسلية أو تعبئة وقت الفراغ.

بجدية مفرطة، وبما يليق بصراعات وجودية، تتعاطى روسيا مع تفاصيل المشهد السوري وتراقب تطوراته ومواقف الأخرين، تأخذ بالحسبان أي موقف، حتى ولو كان ظاهرياً مجرد موقف إعلامي تفاوضي، وتستفيد كثيراً من لا جدية الاخرين وأحيانا من عدم خبرة البعض الأخر، ودائما من الحسابات الخاطئة لتلك الاطراف وعدم حسن إستخدام أوراقها التفاوضية بالشكل الملائم.

تمثلت أخر تجليات الجدية الروسية في طرح ما يسمى" مناطق خفض التوتر"، او ما يحلو للبعض تسميته " المناطق الأربع الأمنة"، بحيث يمكن إعتبار هذا الطرح بمثابة إجتراح ولّفته الماكينة الدبلوماسية الروسية في مواجهة سياق التطورات الناجم عن عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى العمل في المنطقة والحديث عن إستراتيجية جديدة لإدارة ترامب، الهدف المعلن فيها محاصرة النفوذ الإيراني. 

في سياق تلك الإستراتيجية طرحت إدارة الرئيس دونالد ترامب فكرة المناطق الأمنة، وراحت هذه الإدارة تحسب التكاليف وتستشير الأطراف حول إنجاز هذا العمل، إلى أن وصلت الفكرة في النهاية إلى مرحلة بدت فيها مثقلة بحسابات كثيرة، وظهر التردّد والتشكيك من قبل الأطراف الحليفة لأميركا، وخاصة وان الفكرة إتسعت إلى حد تأسيس تحالف عربي لمواجهة إيران، وإختلاف وجهات نظر الأطراف المرشحة لهذا التحالف.

راقبت روسيا هذا الوضع بشكل جيد، ودرست نقاط ضعفه بعناية، وكعادتها إجترحت فكرة اكثر رشاقة وقابلية للتطبيق، كما أنها القت بطوق نجاة لأميركا نفسها وحلفاءها، الذين وقعوا في مأزق عدم القدرة على تحويل إستراتيجيتهم إلى واقع، نظراً لتكاليفها الباهظة وإغراقها بتفاصيل زائدة لا لزوم لها، وهو ما يذكر بحادثة الكيماوي وكيف ان أميركا والدول الغربية أغرقت نفسها بإجراءات وتعقيدات لإنفاذ تهديداتها، إلى حين تقدمت روسيا بالحل المنقذ الممثل بنزع السلاح الكيماوي.

يمكن القول اليوم، أن روسيا قد أحبطت المسار الذي تشكل بعد ضربة مطار الشعيرات وأسقطته قبل إنضاجه، ولا بد من الإعتراف أن رشاقتها الدبلوماسية والسرعة المذهلة في صناعة التكتيكات المضادة أسهمت بدور كبير في حصول هذه التطورات، لدرجة ان روسيا، وعلى مرأى جميع اللاعبين، غيّرت البيئة القانونية للقضية السورية وأبطلت مفاعيل القرارات الدولية التي إتفقت عليها مع المجتمع الدولي للحل في سورية وصنعت قواعد جديدة ناظمة للحل تصب في مصلحتها ومصلحة نظام الأسد.

وبدل ان تشكل المناطق الأمنة معطى جديد في الواقع السوري يؤسس لحل متوازن على الأقل، ويشكل فرصة لصناعة الكوادر وتجهيز البدائل التقنية والسياسية القادرة على إدارة البلاد بعد إزاحة نظام الأسد، أنتجت الذهنية الروسية فكرة " مناطق خفض التوتر" وهي ليست أكثر من سجن مسوّر بإعتراف المجتمع الدولي ودعمه الهدف منه حبس الثورة السورية والقضاء عليها بإحالتها إلى التقاعد والموت في منازلهم.

أسّست روسيا مقترحها هذا على فكرة أن حربها العسكرية في سورية وصلت إلى الذروة وأنها انجزت المساحة الأكبر من أهدافها وما تبقى من اهداف فإن الدينامية التي صنعتها كفيلة بإنجازها، رعب الأطراف من وحشيتها كقيل بتنازلهم أمامها، كما أن ترجيح كفة الأسد في الصراع وإنهاك فصائل الثوار وحصرهم في مناطق شبه مغلقة، إضافة إلى الرهان على صراعات المعارضة، كما هو حاصل في غوطة دمشق، كل تلك هي تمظهرات إشتغال الدينامية القاتلة، في وقت لا تكلّف الأطراف المقابلة لروسيا نفسها في كسر هذه الدينامية ولا صناعة دينامية موازية لإرباك روسيا ودفعها إلى مواقع الدفاع والتفاوض.

من الواضح أيضا المكاسب الروسية في المناطق المقترحة للتهدئة، فهي إما مناطق أصبحت شبه محاصرة" غوطة دمشق وشمال حمص" أو مناطق يتراجع فيها نظام الأسد" درعا" أو مناطق تعتبرها روسيا مكلفة ولا يمكن خوض معارك فيها الان" إدلب"، ما يعني أن كل شيء محسوب على مقاسات المسطرة الروسية وما يؤدي إلى إضعاف الخصم وإحباط تكتيكاته.

أما ما هو أخطر من ذلك، أن فكرة المناطق منخفضة التوتر شرعنت الوجودين الروسي والإيراني على الأرض السورية بعد تحولهما إلى ضامنين أساسيين لإنجاز هذه المهمة، بما يثبت أن كل الطروحات الروسية لا تصدر من فراغ بقدر ما هي حلقات في سلسلة ترسيخ الإحتلالات في سورية والقضاء على الأكثرية ودفع ما تبقى منها لمغادرة سورية.