قضايا وآراء

الزيادة السكانية نعمة أم نقمة؟

1300x600
خرج علينا عبد الفتاح السيسي كعادته من خلال أحد البرامج التلفزيونية المخابراتية ليحمل شعب مصر مسئولية فشله، فشماعات الفشل التي حملها للشعب لا تنقضي عجائبها، ولن ينتهي عددها وليس آخرها ما أثاره عن قضية السكان وقوله أن النمو السكاني خطر كبير يواجه الدولة بشكل لا يقل عن الإرهاب. وأن الدولة تدرس وضع قوانين لتنظيم الأسرة، والحد من الكثافة السكانية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ما إن صدر مثل هذا الكلام الباهت حتي علا وميضه وانتشرت رائحته الكريهة في كافة الأذرعة الإعلامية التي يحركها العسكر من برامج تلفزيونية وصحف ونحوها.

إن فرعون وسحرة الضلال لا هم له سوى تغييب الوعي وتزييف الحقائق، ومحو آثار ثورة يناير، وما رسخته من حرية، حتى بات السيسي يريد أن يدخل للمصريين في غرفات نومهم، ويحرم ما أحله الله لهم، سواء تم ذلك بتزييف الحقائق من إعلاميين فاسدين  أو علماء سلطة وعملاء للشرطة ضالين مضلين.

إن قضية الزيادة السكانية رددها من قبل مبارك وغيره ممن نهبوا ثروات مصر ورسخوا الطبقية وجعلوا الثروة دولة بين رجال الأعمال في عهد مبارك أو بين العسكر في عهد السيسي، في حين ينام باقي الشعب ما بين متعفف أو جائع، أو يعيش ليأكل بدلا من أن يأكل ليعيش.

إن الناظر في الجانب الأخر من البحر المتوسط يجد تجربة تنموية فاقت التوقعات وحققت جودة حياتية لا يستهان بها خلال سنوات قلائل، في الوقت الذي أغرق السيسي ومن قبله من العسكر المصريين في بحور الفقر والجهل والمرض.. إنها التجربة التركية التي طالما يدعو قائدها وبانيها الرئيس رجب طيب أردوغان شعبه إلى إنجاب المزيد من الأطفال، معتبرا أنه لا يجب على العائلات المسلمة اتباع طرق تحديد النسل.. معلنا أنه سوف تتضاعف أعداد الأجيال القادمة.. ناقدا من يقلبون الحقائق ويتحدثون عن تحديد النسل والتخطيط السكاني، قائلا  لا يجب على أي عائلة مسلمة أن تتبع ذلك.. لا يجب على أحد أن يتدخل في إرادة الله.. مشيرا إلى أن مسئولية ذلك تقع على عاتق الأمهات.

إن التاريخ المنظور يثبت أن الدعوة للحد من الزيادة السكانية للمسلمين هى دعوة مشبوهة تتبناها المؤسسات الدولية، في الوقت نفسه الذي حرصت تلك المؤسسات على تحفيز الزيادة السكانية في الدول الغربية، والتي تعانى أصلا من تفشي الشيخوخة وانخفاض معدل المواليد كنتيجة حتمية للانحرافات الخلقية.

لقد شهد العالم في القرن الثامن عشر الميلادي ظهور نظرية الاقتصادي الانجليزي الشهير (مالتوس) في السكان، والتي ادعى فيها أن العالم لابد أن يشهد كل ربع قرن ما يشبه المجاعة, وذلك نتيجة ميل سكانه للزيادة وفق متوالية هندسية ، بينما يميل الغذاء إلى الزيادة بحسب متوالية عددية. ومن ثم فإن وجود فجوة بين السكان والموارد الغذائية أمر لا مفر منه، وازدياد هذه الفجوة اتساعا بمرور الزمن أمر لا فكاك عنه.

وقد توصل (مالتوس) لحل ينافي الفطرة الإنسانية لهذه المشكلة من خلال مطالبته بالعزوف عن الزواج أو تأجيله بهدف الحد من الزيادة السكانية، وإلا فإن الطبيعة ستحصد الرؤوس الزائدة من خلال الأمراض والأوبئة نتيجة سوء التغذية، أو بالحروب نتيجة للتصارع على الموارد الغذائية. وقد أثبت الواقع خرافة نظرية القس (مالتوس) التي يرفع لواءها السيسي الآن حتى وضع الزيادة السكانية والإرهاب الذي صنعه بيديه في سلة واحدة.

والتاريخ نفسه يعود بنا إلي القرن الرابع عشر الميلادي ليبرز لما ما سطره أبو علم الاجتماع ومن ثم علم الاقتصاد (ابن خلدون) الذي نظر للزيادة السكانية كقوة تنموية، حيث أولى أهمية كبرى لعدد السكان في تحقيق التنمية، واعتبره من مقوماتها ودلالتها، فالزياة السكانية في نظره تؤدي إلي زيادة درجة العمران. وقلتها في بداية الدولة تعيق التنمية وفي نهايتها تضعفها.  وهذا عكس الفكر الذي يتبناه السيسي بأن الزيادة السكانية هي العائق أمام التنمية التي لا يعرف طريقها في الأساس.
 
إن السيسي الذي عنده أربعة من الولد يريد أن يحرم على شعب مصر أن يأتي بمثله، ويتوعد بسن قانون للحد مما سماه الكثافة السكانية، وكأنه يغدق علي الأطفال من التأمين الاجتماعي -الغائب أصلا- ما لا يمكن عده أو من الدعم الوهمي ما لا يمكن وصفه!!

إن السيسي يعود بي للذاكرة حينما كنت طالبا في الجامعة في الثمانينات من القرن الماضي، وجاءوا بعالم أزهري بمركز شباب مدينتنا الرحمانية بمحافظة البحيرة ليزين تحديد النسل باسم تنظيمه، فناقشته أمام الحضور وكان جلهم من النساء فلم يستطع جوابا وأثنى الحضور على ما قلت ولم يكمل الشيخ محاضرته التي جاء من أجلها. 

إن الله تعالى خلق كل نسمة وتكفل برزقها. فقال سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)،  سوره هود/ 6. وعدد السكان لا يمكن النظر إليه على أنه عبء ومصيبة. بل هو نعمة يجب أن تشكر، ومصدر قوة يجب أن تستغل. والله تعالى كفل أرزاق العباد وطلب منهم الأخذ بالأسباب والمشي في مناكب الأرض، وخلق لهم فم واحد، في الوقت الذي أنعم عليهم بيدين لهما القدرة على إطعام هذا الفم من رزق الله بالعمل والإنتاج. كما أنه إذا كان يولد في كل عام مئات الآلاف من البشر ، إلا أنه في الوقت نفسه تولد كل عام مئات الأفكار والمخترعات وتزيد أفق المعرفة فيتسع العالم وتزيد موارده من تلك الأفكار التي لو أحسن استغلالها لتكشفت ينابيع متجددة ومتعددة من الثروات.

إن زيادة السكان تعني من جهة المزيد من الأيدي العاملة ومن ثم إمكانية التخصص وتقسيم العمل، وبالتالي المزيد من الإنتاج والمزيد من الفائض الاقتصادي، ومعنى ذلك تحقق حلول معقولة لنظرية العرض، كما إنها تعنى من جهة اخرى المزيد من الطلب ، ومعنى ذلك حل مشكلة الطلب.

وكم من دول فقيرة في الموارد ولكنها استخدمت ما لديها من قوة عاملة في بناء نهضتها فعلى سبيل المثال اليابان -التي بلغت صادراتها بجودتها الآفاق- تفتقر إلى الموارد الطبيعية ولكنها أجادت استخدام مواردها البشرية فمساحتها تبلغ 380000 كيلو متر مربع  ونسبة 20% من الأراضي اليابانية غير قابلة للاستغلال على الصعيد الاقتصادي وبقية الأرض تشكلها الجبال، وعدد سكانها يتسم بالكثافة حيث يبلغ  118000 مليون نسمة  ومع ذلك وصلت إلا ما وصلت إليه من تقدم وتنمية، أما نحن فما زلنا نعيش في بيت من التخلف لا صوت فيه يعلو فوق صوت اسطوانة العسكر المشروخة منذ أكثر من ستين عاما التي تخدر شعبها بالمستقبل المزيف للتنمية، وتعلق فشلها على شماعة الزيادة السكانية!