قضايا وآراء

يا ليت لهم مثل ما أوتيت قطر من حصار

1300x600
وبالعودة مرة أخرى للمهزلة العبثية في الخليج بين قطر وأبو ظبي والعربية السعودية؛ فقد عاد وزير الخارجية الأمريكي بخفي حنين ولم يحقق شيئا. وهو تصور أنه بتوقيع قطر للاتفاقية الخاصة بتحريم تمويل الإرهاب ومحاربته مع الولايات المتحدة سيحل المشكلة، وتعود المياه إلى مجاريها كما كانت، وسيرقص العاهل السعودي مجددا في الدوحة. ولكن هل كان يعتقد فعلا أن السبب في هذه الأزمة هو قضية الإرهاب والعلاقة مع إيران؟ أم انه أراد أن يُظهر ذلك من أجل استغلال الفرصة وابتزاز الدوحة أكثر وأكثر؛ لأنني أعتقد أن الهدف من هذه المهزلة أن الأمريكان يريدون تغيير منطقة الخليج، وقد ذكرت ذلك مرة سابقة أن العالم العربي مقبل على مرحلة سوف تكون أكثر سوادا وتشرذما مما نحن فيه الآن – إلا أن يشاء الله أمرا كان مفعولا - وأن الشعوب نفسها سوف تطالب بالتقسيم والتفريق فيما بينها، وسوف تكون منطقة الخليج ضمن العالم العربي وستتذوق نفس الجرعة.

وإن ما نراه الآن من عبث في المنطقة الخليجية ما هو إلا تباشير وخطوات أولية للأحداث القادمة، وخصوصا أن العالم، وقبل الوصول لمنتصف القرن الذي نعيش فيه سوف، لن تكون هناك قيمة للبترول أو الغاز كما هي له الآن، وستعود دول الخليج لمجموعة من القبائل التي تتقاتل فيما بينها من أجل قتل ناقة أو كلب أو غير ذلك، مثل حرب البسوس التي استمرت أربعين عاما كما في بعض الروايات؛ بسبب خلاف على رعي الإبل.

لقد صرح المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الجنرال ديفيد بيترايوس أن استقبال قطر لقيادات حماس وطالبان التي تقيم في الدوحة؛ كان بطلب من المخابرات الأمريكية، ولم يحدث وقتها أن اعتذرت القيادة القطرية بأن هذا تدخل في السيادة القطرية. وقد أطلق الجنرال بيترايوس هذه التصريحات عبر إحدى المجلات الفرنسية منذ أسبوع، وبعد قيام عصابة الأربعة بقطع العلاقات مع قطر. الغريب أن قناة الجزيرة والمواقع الإخبارية المؤيدة لقطر قامت بترديد هذا التصريح وكأنه طوق نجاة؛ بأن ما تقوم به قطر من تصرفات كان بناء على توجيه أمريكي ولم يعترض أحد بأن هذا نوع من التدخل في السيادة، ولكن الطلب قادم من السيد نفسه فلا تلفت للسيادة. وهذا يؤكد ما تسرب عن اللقاء الذي تم بين العاهل السعودي الراحل مع أمير قطر عام 2014 بشأن موقف قطر من الانقلاب العسكري في مصر واستقبالها لعدد من قيادات الإخوان ودعمها لقناة الجزيرة مباشر مصر. وانتهى اللقاء الذي تم بوساطة كويتية بترحيل عدد من الإخوان من الدوحة وإغلاق قناة مباشر مصر، وأصبح السيس رئيسا، وكل هذا لم يكن تدخل في السيادة!! خلال اللقاء قام العاهل السعودي السابق بسؤال أمير قطر: هل الأمريكان هم من طلبوا منكم أن تقوموا بهذا الدور تجاه الانقلاب في مصر ودعم الإخوان. فماذا كانت إجابة أمير قطر؟! لم تكن نحن لا نقبل التدخل في شؤوننا الداخلية - كما الآن - ولكنه أجاب، كما تسرب، بأن الأمريكان لم يطلبوا القيام بهذا الدور ولم يطلبوا عدم القيام به، بمعنى أننا نتحرك في المساحة المسموح بها. ومن السؤال والإجابة يبدو أن الطرفين متفقان على أن كل ما يقوله السيد الساكن بعيدا أوامر ويجب تنفيذها. وكما ذكرت سابقا، فإن الطرفين موجودان في الحديقة الخلفية لذلك السيد، أحدهما يتحرك "يطنطط" داخل الحديقة اعتقادا أنه بذلك يسعد السيد، والآخر ثابت في مكانه اعتقادا بأنه بذلك يطيع السيد. وهذا هو الفرق بينهما. ولكن الكل يعلم ومتفق أنهما ينتظران الأوامر أو الطلبات لتنفيذها.

منذ عدة أيام أصدرت منظمة هيومان رايتس تقريرا عن الأوضاع في غزة بعد تضييق "الحصار" على القطاع المنكوب والمستمر منذ أكثر من 10 سنوات، والذي وصل إلي انقطاع الكهرباء عن أهل القطاع إلى اكثر من 20 ساعة يوميا. كما أن معبر رفح مغلق لمدة تزيد عن أربعة شهور متصلة، وهي المدة الأطول في تاريخ الحصار حتى الآن. ومعبر رفح يعتبر المنفذ الوحيد الذي يسمح لأبناء القطاع بالخروج لتلقي العلاج أو العمل أو الدراسة خارج القطاع، عبر مصر، بالإضافة إلى أن المستشفيات في القطاع وصلت لمستوى من التدني لا يوجد في أي منطقة أخرى في العالم - إلا في مناطق عربية أخرى مثل اليمن وسوريا - وأنه لا تتوفر الاحتياجات الطبية الأساسية، مما أدى ويؤدى إلى وفاة العديد من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يسكنون في القطاع ومن الأعمار المختلفة، يوميا، نتيجة عدم وجود المستلزمات الطبية الضرورية. كما أن مستوى الفقر بين أهل القطاع قد بلغ حدا غير مسبوق مع قطع السلطة الفلسطينية لرواتب عائلات الأسرى، بالإضافة إلى عدم دفع مرتبات موظفي الحكومة الفلسطينية، من باب زيادة الضغوط على حركة حماس المسيطرة على القطاع، مع قيام مصر بتدمير كافة الأنفاق، والأنفاق التي لم تدمر قامت بإغراقها. وهذه الأنفاق كانت تمثل رئة بديلة لأهل القطاع لإدخال الاحتياجات المختلفة، من غذاء ودواء وغير ذلك، وكانت توفر الحد الأدنى من من مستويات الحياة البشرية. وقد بررت مصر هذا التصرف بأنه من أجل محاربة المجرمين الذين يقومون بعمليات في سيناء وغيرها. كما أشار التقرير إلى غياب الاحتياجات الإنسانية الأساسية، من طعام وشراب، فاصبح المواطن الفلسطيني غير قادر على توفير الضروريات المعيشية له ولأسرته. وأخيرا ما أثير بخصوص قانون الجرائم الالكترونية، والذي يهدف إلى منع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وفرض الحصار عليهم.

وإذا انتقلنا إلى ركن عربي آخر، وهو في اليمن شمالا وجنوبا، في صنعاء وعدن، نجد أيضا أن الأوضاع المعيشية تزداد سوءا، والسكان محاصرون من الحوثيين وأتباع على عبدالله صالح شمالا، ومن التحالف السعودي الإماراتي وأتباعهما جنوبا. والأوضاع الاقتصادية في اليمن تنهار كل يوم وتزداد سوءا، حتى المساعدات التي تسعى المنظمات الإغاثية حول العالم لتوفيرها وتوصيلها للشعب اليمنى؛ قليلا ما تصل إلى المحتاجين إليها بسبب المواجهات التي تتم في كافة البقاع والمحافظات اليمنية بين التحالف السعودي وأتباع الحوثي وصالح، وبالتالي يفقد اليمنيون الكثير من المساعدات الغذائية وغيرها. وإذا انتقلنا إلى جانب آخر متأثر من الحصار الذي يعاني منه اليمن، وهو الجانب الصحي والطبي، نجد أن التدهور قد رجع باليمن إلى أكثر من مئة عام ماضية. فحسب التقديرات الدولية لمنظمة الصحة العالمية، توفي في اليمن نتيجة مرض الكوليرا فقط ما يزيد عن ألفي يمني خلال الأشهر القليلة الماضية، وعدد المصابين يبلغ اكثر من 40 ألفا. والجميع يعلم أن هذا المرض قد انتهى من العالم منذ ما يقرب من مئة عام، ولكنه عاد إلى اليمن نتيجة غياب مياه الشرب النظيفة. كما أننا بين الفينة والأخرى؛ نقراً عن تحذير صادر عن إحدى منظمات الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان بأن اليمن تواجه المجاعة، وأن ما يزيد عن سبعة ملايين إنسان يمني لا يعرفون متى سيحصلون على وجبتهم التالية. كما أن القرار الذي اتخذه عبد ربه منصور هادي بنقل المصرف المركزي لعدن قد ساهم في تفاقم الأوضاع الاقتصادية، لعدم صرف رواتب الموظفين، حتى المتقاعدين منهم في الجانب الشمالي، ناهيك عن الانهيار في مجال التعليم والخدمات الاجتماعية ومختلف مناحي الحياة.

ركن آخر من أركان العالم العربي يعيش حصارا حقيقيا آخر، وهو الركن الشامي في سوريا. والشعب السوري محاصر من البراميل المتفجرة والقنابل الكيماوية من النظام، ومحاصر من القتل والتعذيب على الهوية من عصابات الحشد وأتباع إيران وحزب الله، ومحاصر من المجرمين ممن يدعون أنهم قوات إسلامية لتحرير سوريا، سواء كانت داعش او النصرة أو غيرهما من الأسماء والمسميات، بالإضافة إلى أنهم محاصرون من الغرب في أوروبا وأمريكا بتخفيض أعداد اللاجئين المسموح به للهجرة واللجوء، وكذلك حصارهم من قبل تجار البشر سواء في تركيا أو غيرها. من منا لا يذكر صورة الطفل آلان كردي ذي الأعوام الثلاثة الذي مات غريقا، وتناقلت الصورة وكالات الأنباء العالمية، ومات أخوه وأمه في محاولة الهروب من الجحيم السوري. وكذلك صورة الطفل عمران الذي كان يبلغ أربع سنوات عند انهيار منزله في سوريا.. وغيرهما العديد من أبناء الشعب السوري الذي اجتمعت عليه قوى ودول العالم كله من أجل تدميره. فالشعب السوري الذي كان يبلغ 24 مليون نسمة قبل الحرب في سوريا تقلص الآن إلى حوالى 18 مليون نسمة حسب تقديرات الأمم المتحدة لعام 2016. يبلغ عدد النازحين من السوريين داخل سوريا ما يزيد عن ستة ملايين انتقلوا من مساكنهم إلى مناطق أكثر أمنا في الأجزاء الريفية.

وإذا انتقلنا إلى الجوانب الصحية والطبية، فحسب التقديرات؛ أكثر من 50 في المئة من المستشفيات والمراكز الصحية خارج الخدمة. وبالنسبة للتعليم، فحسب إحصائيات اليونيسيف؛ بلغ عدد الأطفال في عمر الدراسة والذين لا يذهبون إلى المدرسة؛ 40 في المئة مع نهاية العام الماضي. هذا ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار والفقر المدقع الذي يعيشه الشعب السوري في سوريا. وهناك تقارير عن وفاة الكثيرين من السوريين نتيجة الجوع وعدم القدرة على سد الرمق.

الركن الرابع الذي يعيش حصارا حقيقيا في عالمنا العربي؛ هو الشعب المصري وأهل مصر. ومصر هي كما كانوا يقولون "أم الدنيا"، وجاء السيسي وقال "قد الدنيا".. يعيش شعبها حصارا شديدا من جانب الحاكم الظالم الذي يحكمها الآن. ولن أتحدث عن ارتفاع الأسعار وتعويم الجنيه وانهيار التعليم والصحة وكافة جوانب الحياة، لكن يكفي للتدليل على ما وصلت إليه مصر وشعبها من حصار؛ هي المشاهد التي نراها بشكل متزايد في شوارع القاهرة وفي محافظات الجمهورية المختلفة. وهو مشهد يقوم فيه أحد المواطنين المصريين بالبحث في صناديق القمامة بحثا عن طعام يسد به جوعه أو جوع أولاده. هذا بالإضافة لما نسمعه أو نقراً عنه خلال الأعوام الأخيرة عن مصريين يبيعون أبناءهم، أو ما يطلقون عليه تجارة الأعضاء، نتيجة الفقر.

والحصار لا يتوقف فقط على مناحي الحياة في مصر، ولكن حصار فعلي على من يحاول أن ينجو بنفسه من هذه الدولة ويهرب إلى أوروبا وغيرها؛ من خلال حصار المياه المصرية، وتصل لدرجة إغراق السفن والمراكب التي تحمل شباب مصر الساعي لحياة أفضل خارج مصر"أم الدنيا أو قد الدنيا". بل وصل الحصار للمواقع الإخبارية ومواقع الإنترنت، حيث بلغ عدد المواقع التي تم حجبها في مصر حتى اليومين الماضيين؛ 122 موقعا. وكان آخر مشاهد الحصار الحقيقي ما تعرضت له جزيرة الوراق بمدينة الجيزة من حصار فعلي، وقد صل لدرجة منع دخول أنابيب البوتاجاز للجزيرة، وكذلك وقف العبّارات التي تنقل سكان الجزيرة للضفة الأخرى من النيل، بالإضافة إلى منع مرضى الفشل الكلوي من الذهاب للمستشفيات ومراكز غسيل الكلى خارج الجزيرة. وهناك أركان أخرى عديدة في عالمنا العربي محاصرون حصارا حقيقيا، ولسان حالهم يقول "يا ليت..."، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

كلمة أخيرة، لقد صدر أخيرا في بعض التقارير التي صدرت عن إحدى الهيئات البريطانية أن العربية السعودية قامت بتمويل الإرهاب، ومع صدور التقرير هللت وسائل الإعلام والقنوات التابعة لقطر، وكأنها اكتشفت اكتشافا عظيما لإحراج السعودية ومن مصدر غربي، وقامت بتسليط الضوء عليه، وظلت تعيده أكثر من مرة خلال اليوم الواحد. مع أنه كان من المعلوم من الواقع بالضرورة أن دعم السعودية وغيرها للقاعدة في أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفييتي كان بطلب أمريكي، كما طلبت من قطر استضافة حماس وطالبان. ومما يتعجب له الإنسان أن القنوات والوسائل الإعلامية من الطرفين لا "تريد أن تدرك" ولا أقول "لا تدرك" حقيقة ما يحدث بين الإمارات المتصارعة سواء في قطر أو أبو ظبي، وحتى العربية السعودية، وأصبحت تميل كل الميل للطرف الذي تتبعه.. نسأل الله العفو والعافية.

وختاما أدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ شعوب الجزيرة العربية على اختلاف انتماءاتهم لأنه إذا - لا قدر الله - تطورت المهزلة العبثية التي يعيشونها؛ فسوف يكون الخاسر هم الشعوب. أما الأنظمة والأمراء والشيوخ من الطرفين سيكونون أول الهاربين خارج أتون الصراع إذا نشب. كما أدعو لهم ولجميع الشعوب العربية والإسلامية بأن ينير المولى عز وجل لهم بصيرتهم ويوفقهم لما فيه الخير والصلاح.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.