كتاب عربي 21

الرجل الذي قال لعبد الناصر اتق الله!

1300x600
لم يكن درويشا غائبا عن الوعي في "حلقة ذكر" فاستحق أن ينكل به جمال عبد الناصر، بشكل لم يراع معه "الأصول" وهو ينتقم منه، لأنه قال له: "اتق الله"!

فمن قالها هو الضابط "كمال الدين حسين"، أحد الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو 1952، وعضو مجلس قيادة الثورة، وعضو المجلس الرئاسي الذي من المفترض أنه أعلى سلطة في البلاد، ولم يكن من الضباط المناوئين لعبد الناصر، مثل ضباط سلاح الفرسان، الذين طالبوا بعودة الجيش إلى ثكناته، وعودة الحياة الحزبية والنيابية، وتمكين الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه، وبإرادته الحرة، فدمر عبد الناصر السلاح على من فيه.

لقد بدأ خلاف "كمال الدين حسين" مع عبد الناصر سياسياً، فقد طالبه بالحرية في لقاء حميمي بينهما، أعلن فيه عبد الناصر أن من بين من حضروا اللقاء من الضباط هو "علاقة دم"، واحتج "حسين" – كما يروي "عبد اللطيف البغدادي" في مذاكراته – على الأضرار التي تلحق بالموظفين الذين يتم فصلهم من أعمالهم لأسباب سياسية، كما أثار قضية اعتراض الرئاسة على بعض مرشحي مجلس الامة "البرلمان"، مشيراً إلى أنه يتصادم مع ما جاء في "الميثاق" من أن الحرية، كل الحرية للشعب، و"الميثاق" هو "منافسو الحكم" ويضم مجموعة المبادئ، التي تقرر أن تكون المرجعية التي توجه السلطة ويتم الاحتكام إليها.

ومما طالب به "كمال الدين حسين" أن تكون الاشتراكية نابعة من تعاليم الإسلام وليست من أفكار "ماركس" و"لينين"!

ردا على المطلب الأخير فإن عبد الناصر بعد أن لف ودار، و"لت وفت"، قال إنه فوجئ بهذا الطلب وأرجع صعوبة تطبيقه لعدم وجود الدراسات، التي تبحث في الأمر، مع أن المكتبة كانت زاخرة بالكتب التي تتحدث عن اشتراكية الإسلام التي وضعها أصحابها تماشيا مع روح المرحلة، وليتقربوا بها للسلطة الحاكمة زلفى!

أما فيما يختص بالأضرار التي تقع على الموظفين الذين يتم فصلهم من أعمالهم، فرد "عبد الناصر" بأن هناك لجنة خاصة للنظر في تظلمات من صدر قرار بفصلهم من وظائفهم. وفي رده على استبعاد مرشحين لمجلس الأمة، فقد اعترف عبد الناصر بذلك، وبمخالفته للميثاق، لكنه أكد أنه تم تداركه!

في هذه الجلسة، التي كانت في سنة 1965، وعلى بعد خطوات من هزيمة يونيو 1967، فاجأ "كمال الدين حسين" الرئيس "جمال عبد الناصر" بما أزعجه، عندما نقل إليه أنه تم شتمه في المواصلات العامة، فاستنكره، لكن "كمال الدين حسين" أكد له أن الأجهزة تضلله لأنها لم تنقل له هذه الحقيقة.

ولعل سؤالا يطرح نفسه الآن، هل يوجد بجانب عبد الفتاح السيسي من يجرؤ على نقل نبض الشارع له، وكيف أنه صار يُشتم "عيانا بيانا"؟ وهل تنقل له الأجهزة الأمنية ذلك؟! وإن كنت أدرك بأن السيسي ليس مشغولاً برضى المصريين عنه، فلا يستمد شرعيته من هذا الشعب كما عبد الناصر، ولهذا أزعجه الأمر، فالسيسي شرعيته مستمدة من الدوائر الإقليمية والدولية!

عندما وجد "كمال الدين حسين" أنه لا أمل في "عبد الناصر"، الذي غيب مجلس الرئاسة وحكم منفرداً، فلم يدير انقلاباً ضده، فقط تقدم باستقالته لينسحب من المشهد بهدوء، وإذ أرقه ما سمع به من تعذيب وتنكيل يجري على الإخوان المسلمين في السجون، فقد أرسل له رسالة يقول له فيها: "اتق الله"، "فلا خير في إذا لم أقلها لك"، والرسالة كلها ليس فيها تجاوز لحدود الأدب، حيث تتكرر فيها عبارة: "اتق الله"، والوعد الإلهي لمن يتق الله، والوعيد لمن يخالف ذلك وتأخذه العزة بالإثم!

واعتبر "عبد الناصر" أن الاستقالة، وخطاب الموعظة، جريمة كبرى، فنسي كلامه السابق من أنهم معشر الذين شاركوا في ثورة يوليو بينهم علاقة دم، فكان القرار باعتقال "كمال الدين حسين"، ونقله من منزله إلى استراحة الآثار بمنطقة الأهرامات، بعيداً عن العمران، وحُددت إقامته فيها ومعه زوجته وأولاده، وامتد العقاب إلى والده فتم تحديد إقامته في منزله بمدينة بنها، كما تم فصل عدد من أقاربه من وظائفهم، وفُصل أيضاً ابنه مصطفى الضابط بالجيش!

ويروي زميله "عبد اللطيف البغدادي"، هذا الإجرام الذي قام به "جمال عبد الناصر"، وكيف استمر قرار تحديد اقامة "كمال الدين حسين"، حتى توفيت زوجته وهي معه في 9 يناير 1966، "ولم يجد طبيباً يقوم بإسعافها ولم يحضر إلا بعد عدة ساعات طويلة وبعد أن كان أمر الله قد نفذ".

ويستطرد "البغدادي": "ومن الغريب أن زملاءه لم يقوموا بواجب التعزية في وفاتها"!

الغريب أن هناك من انتظر من الحاكم العسكري عبد الفتاح السيسي، أن يرفق بحال الأستاذ مهدي عاكف، واندهش لأن يواصل تنكيله ولم تأخذه به رحمة إن لم يكن بسبب شيخوخته فبسبب مرضه، وهناك من استولت عليهم الدهشة لمنع السيسي تشييع جنازة الرجل والصلاة عليه، وهي دهشة ليس لها ما يبررها عندما نقف على الجذور التاريخية لـ"قلة الاصل" التي هي سمة من سمات الحاكم العسكري.

إنه عرق العسكر الدساس.