قضايا وآراء

قواعد التفاوض السياسي

1300x600
إذا كان التفاوض السياسي هو عصب الممارسة السياسيَّة البراغماتيَّة الحديثة، فينبغي على المفاوِض المسلم، المضطر إلى تلك الممارسة؛ الجديَّة في الأخذ بثلاث قواعد حاسمة؛ أمكننا تجريدها من التصور الإسلامي وما وافقه من خبرات المسلمين المعاصرة.

أولى هذه القواعِد، هي دوام الإبقاء على الحاجز النفسي بينك وبين من تفاوضه، خصوصا إذا كان ينتمي لثقافة أو ملّة أخرى. فهذا يجعله غير قادر على التنبؤ بردود فعلك على الإطلاق، ومن ثم يُعير كل الاهتمام لما تقول، ويأخذ بعين الاعتبار كل ما تطلُب. وقد اعتصر المناضِلون الفيتناميون شيطان الدبلوماسيَّة، هنري كيسنجر، في باريس، برفضهم رفضا باتّا تناول العشاء معه لتذويب الجليد بينهما وإزالة الحواجز، في حين حملت منظمة التحرير الفلسطينية سفاحا بما سُمي بسُلطة أوسلو؛ جراء تبادُل القبلات والدعوات والنزهات والمشروبات والترهات، مع الإسرائيليين؛ حتى ذاب الجليد وصار الأعداء أصدقاء، وذابت "الثوابِت الوطنية" و"الكرامة الوطنية" و"المطالب الوطنيَّة" في حرارة "الصداقة" المشبوهة. وقد كانوا في ذلك يحتذون السادات، صديق مناحم بيغين؛ حذو القذَّة بالقذة!

أما ثاني القواعِد، فهي الحرص على الكتمان الشديد فيما يتعلَّق بالأهداف البعيدة والمتوسطة، وطرق تحقيقها وحقيقة القدرة على تحقيقها. فلا يجب أن يعرف من تفاوضه أكثر من أهدافك القريبة المعلَنة، وما عدا ذلك فيجب أن يظل مجهولا بالنسبة له أو على الأقل غائما. فهذا يجعله غير قادر على معرفة المدى الذي يمكن أن تمتد إليه خططك وقدراتك يقينا، ومن ثم يولي اللحظة التفاوضية الآنية كل الانتباه طمعا بالانتقال لغيرها بنجاح.

لقد اعتصر الإيرانيون الغرب، في مفاوضاتهم النووية؛ طوال ما يزيد على العقد من الزمان بهذه الطريقة. ورغم الاختراق الأمريكي للمجتمع الإيراني، إلا أن معلوماته عن مستقبل البرنامج النووي وحقيقته كانت - ولا زالت - مشوَّشة وغير مكتملة، وهو أحد أهم أسباب خضوع الأمريكان لمبدأ التفاوض غير المباشر، ثم التفاوض المباشر، ثم إقبالهم على توقيع اتفاقات تُكبِّلهم، في حين خسرت "مودَّة" السادات كل شيء من الجولة الأولى. إذ أيقن الغرب أنه لا يريد الحرب، وأنه أكثر "تعقُّلا" من الاستمرار فيها، وأنه خاضع فعليّا ليس لقصور تسليح "جيشه"، الذي حقَّق معجزة عسكرية بذلك العجز؛ بل لإيمان ميتافيزيقي في القُدرات الخارقة للإله الأمريكي، إيمان ساقه للتعري الكامل أمامه؛ فلم يعُد يحصُل إلا على ما يُلقي به ذلك الإله!

أما ثالثة الأثافي؛ فهي ترسيخ انطباع حقيقي وعميق بأن المفاوِض لا يملك كل الأوراق ولا يستطيع تقديم شيء أكثر من القليل الذي فوِّضَ فيه، وطَرَحَهُ على المائدة علنا؛ حتى لو كان المفاوِضُ في قمة الهرم السياسي ويمكنه تقديم المزيد. إذ أن نقل وترسيخ الانطباع بأن المفاوِض قد يملك القرار النهائي يجعل من تُفاوِضُهُ يكثِّفُ كل جهوده ويلقي بثِقَله على المفاوِض أو فريق المفاوضين (كما حدث مع السادات ومن بعده ياسر عرفات)، لتتنوَّع طرق الضغط من المساومة على العام إلى الابتزاز في الخاص. لذا، لزِمَ وجود خط للرجعة، ولو متوهَّم؛ المهم أن يقتنع به من تفاوضه ويستشعِر تأثيره.

وسواء كان خط الرجعة قيادة أعلى أو الرأي العام، أو شركاء في المسؤولية على ذات الدرجة، أو غير ذلك؛ فالمهم أن يكون الخط واضحا لكل الأطراف، لا لتخفيف الضغط على المفاوِض فحسب، بل لجعل موقفه أكثر مرونة وقدرته على تغيير موقفه التفاوضي أكثر سهولة. ولذا، يُفضَّل ألا يتفاوض من هو في قمة الهرم السياسي مُباشرة. وقد استخدم الإيرانيون هذه الآلية بوضوح طوال جولات مفاوضات الملف النووي، كما استخدمها الرئيس البوسنوي المجاهد علي عزت بيغوفيتش، عليه رحمة الله. وقد أثمرت في الحالة الإيرانية الثمرة المرجوَّة، لكن ثمرتها كانت هزيلة في حالة البوسنة لتكالُب القوى العالمية على الرجل، وإن حَفِظَ هذا الموقف مصداقيته وقوة موقفه الأخلاقي.

يتبقَّى أمر أخير، وهو أن يكون المفاوِض واعيا تمام الوعي، طوال الوقت؛ بحقيقة وحدود الثوابت القيميَّة والأخلاقيَّة التي يصدُر عنها، ويُفترَض به المكابدة أبدا لتجسيدها. لا لتجنُّب التفاوض على هذه المبادئ الثابتة فحسب، بل ليستطيع كذلك الاجتهاد في ضوئها إن لزم الأمر؛ في كل مسلك وفي كل موقف يسلتزِم ذلك.. لا فارق هنالك بين العام والخاص في سياق العمليَّة التفاوضية. وكلما كانت هذه المبادئ الثابتة أقل حجما وأكثر تحديدا؛ كان ثباته أكبر وبراغماتيته أقل. فإنما مَثَلُ كثرة القواعد والمبادئ والرسوم مثل الدساتير المطوَّلة التفصيليَّة؛ يسهُل خرقها والالتفاف حولها ويندُر الالتزام بها. وإنما يجِب على الدساتير والمبادئ الثابتة أن تُعالِج باقتضاب مواطن الالتباس الإشكاليَّة، وتصوغ حكمها عليها بإيجاز في صورة مبادئ مُلزِمة، لا أن تُكرر وتُفصِّل الفطري والبدهي (الدستور الأمريكي مثال نموذجي على ذلك في حجمه). وبذلك يتجنَّب المفاوِض إعادة صياغة المبادئ الثابتة والقواعد الحاكمة تجنُّبا تاما، حفظا لقوَّة موقفه الأخلاقي والتفاوضي.