قضايا وآراء

نووي إيران في عامه المصيري

1300x600

خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) التي توصلت إليه إيران ومجموعة "1+5" الدولية في يوليو 2015، وأصبحت حيز التنفيذ في يناير 2016، دخلت هذا الشهر عامها الثالث الذي يفترض أن يتحدد فيه مصيريا وحاسما لمستقبل الاتفاق.


في مطلع العام الثاني للاتفاق، أي في يناير 2017، تولى عدوّه اللدود مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ما أدخل مصيره في دوامة من الغموض، ولاسيما بعد أن أقدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إجراءين أثارا مزيدا من التساؤلات وعلامات الاستفهام، الأول في 12 اكتوبر الماضي، عندما رفض تأكيد التزام طهران العمل بتعهداتها النووية في تقرير دوري مرسل للكونغرس، والثاني في 12 يناير الحالي، بعد أن مدّد رفع العقوبات على إيران بموجب الاتفاق، لكنّه حدّد 4 شروط ومهلة أربعة شهور لتعديل الاتفاق، مؤكدا هذا التمديد هو الأخير حال لم يتم اعمال التعديلات. 

شروط ونقاط


تمثلت هذه الشروط في مطالبة الكونغرس الأمريكي بتعديل القانون الخاص بمراجعة مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاق النووي ليتضمن بنودا تسمح لواشنطن بإعادة فرض عقوباتها إذا ما تم انتهاكها. التعديلات الأربعة التي يريد ترامب أن يعملها الكونغرس في القانون، هي:


ـ أن يطالب القانون إيران بالسماح للتفتيش الفوري لكل مواقعها التي طلبها المفتشون الدوليون.
ـ أن يطمئن القانون أن إيران حتى لن تقترب من امتلاك القنبلة النووية.
ـ أن يجعل القانون القيود الزمنية في الاتفاق دائمة وغير محددة بوقت.
ـ أن يربط القانون الأمريكي بين برنامجي الأسلحة النووية والصواريخ بعيدة المدى.


قبل الخوض في الحديث عن مستقبل الاتفاق النووي في ظل هذه الشروط والمهل والتهديدات، لا بد من التنويه لنقاط عدة:


أولا: أن هذه هي المرة الثالثة التي يؤيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاتفاق النووي، ويمدد رفع العقوبات عن إيران، وذلك رغم كل هذا الضجيج والعجيج الذي أصم مسامع العالم، ما يؤكد عجزه حتى اللحظة في تمزيق هذا الاتفاق كما وعد بذلك، وأيضا وجود فارق كبير بين أقواله وأعماله في هذا الخصوص.


ثانيا: فنيا، لا يمكن للإدارة الأمريكية أن تلغي الاتفاق النووي من جانب واحد، لأنه اتفاق دولي، له شركاء آخرون، وهي ليست إلا طرفا واحدا فيه، بالتالي جلّ ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة هو الخروج من هذا الاتفاق، وهذا أيضا لايؤدي بالضرورة إلى انهياره، أما عمليا وعلى أرض الواقع، يمكن أن ينتهي هذا التصرف الأمريكي بالاتفاق إلى موت حتمي، حيث أن هذا الانسحاب يعني عودة العقوبات الأمريكية على إيران، وعلى الدول والشركات التي لا تلتزم بها. بالتالي، حال رضخت تلك الدول والشركات لهذه العقوبات، خوفا على مصالحها الاقتصادية والغرامات الأمريكية، سيتم تلقائيا تصفير مكاسب إيران الاقتصادية من الاتفاق النووي، ما سيدفعها في المقابل إلى عدم الالتزام بتعهداتها بمقتضى الاتفاق، وهذا يعني انهياره بالتأكيد في نهاية المطاف.


ثالثا: دوافع الرئيس الأمريكي في معاداة الاتفاق النووي لا تمت بصلة إلى الاتفاق نفسه، ومدى التزام طهران به، حيث أكد ذلك ترامب نفسه ثلاث مرات على الأقل، فضلا عن عشرة مرات أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية ذلك أيضا، مؤكدة أنها لم تسجل أدنى خروق إيرانية. ثمة أسباب لكل هذا العداء الترامبي، بدء من معاداة كل من له صلة بإرث سلفه الرئيس باراك أوباما، ومرورا بشخصية ترامب النرجسية التي لا ترى إلا نفسها ولا تحبذ الإخلاف بما تعد، ووصولا إلى القيود التي يفرضها الاتفاق النووي على الإدارة الأمريكية في مواجهة إيران ونفوذها الإقليمي المتصاعد. 


رابعا: الإدارة الأمريكية ومنذ عهد باراك أوباما "صانع الاتفاق النووي" تعمل على الحد من مكاسب إيران من الاتفاق بطرق غير مباشرة. بدء من تأييد قانون "داماتو" على يد أوباما وصولا إلى إجراءات ترامب وتصريحاته وتهدياته، وكذلك العراقيل التي وضعتها الإدارتان في دواليب تنفيذ الاتفاق النووي، وخاصة فيما يتعلق بتعاملات بنوك العالم مع إيران. جملة هذه الخطوات والإجراءات عارضت البند الـ 28 من الاتفاق، والذي يؤكد على إبداء حسن النوايا والابتعاد عن تصرفات من شأنها تقزيم خطة العمل المشتركة.


هذه التصرفات والتصريحات الأمريكية خلقت أجواء غير مريحة حالت دون استثمار أجنبي حقيقي في إيران، وتعامل المصارف العالمية الكبرى معها، لذلك اليوم وبالرغم من التسمك الأوروبي بالاتفاق، نجد أن البنوك الأوروبية الكبرى ترفض التعامل المالي مع طهران، ما عدا بنوك متوسطة أو صغيرة. مع ذلك، ظلت منافع الاتفاق قائمة لإيران، ولو في مستويات متدنية، لكنها أساسية، مثل تصدير النفط الذي تتوقف عليه عجلة الاقتصاد الإيراني، فضلا عن مردوداته الإقليمية لها. 

البديل والمصير


السؤال المحوري والباعث على هذه السطور: ماذا سيكون مصير الاتفاق النووي في ظل المعطيات الراهنة التي تؤكد أن عام 2018 سيكون مصيريا وحاسما في هذا الصدد؟. الإجابة على ذلك بحاجة إلى تعمق وتمعن بعيدا عن الحرب الإعلامية والنفسية التي تشنها الإدارة الأمريكية ضد الاتفاق.


مازالت مقومات بقاء الاتفاق أكثر من مهدداته، وهي التي أعجزت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تحقيق ما يصبو إليه حتى الآن. أهم تلك المقومات، هو انعدام البديل للاتفاق في ظل الرفض الإيراني للنزول عند الرغبة الأمريكية والقبول بإجراء تعديلات عليه.


لعل البديل الوحيد هو الحرب التي لا أظن أن الإدارة الأمريكية تفكّر في هذا الاتجاه في الوقت الحاضر، بينما هي لا ترغب أو لا تستطيع مواجهة إيران في ساحات إقليمية على نطاق محدود، ناهيك عن اللجوء إلى حرب شاملة ضدها. كما أن ما يتحقق حاليا بسبب نظام المراقبة الأممي على برنامج إيران النووي بموجب الاتفاق النووي، والذي تصفه الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسها بالصارمة ولعل الأكثر صرامة، لن تحققه الحرب، ولن تنهي البرامج النووي الإيراني. عليه، أكد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة يوم الخميس الماضي في بيان أصدره بمناسبة الذكرى الثانية لتنفيذ الاتفاق النووي، أن هذا الاتفاق هو السبيل الأفضل في لمعالجة الملف النووي الإيراني، واصفا إياه بالإنجاز العظيم. كل ذلك يجعل الاتفاق الخيار الأفضل في التعامل مع الملف النووي الإيراني في ظل انعدام بدائل ناجعة.


لنفترض أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلن اليوم خروجها من الاتفاق النووي، وذلك أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الاتفاق، ماذا بعد؟ ستعيد طهران برامجها النووي إلى ما قبل يوليو 2015، أي ستزيد عدد أجهزة الطرد المركزية بإطراد، وترفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 20 بالمائة، أي أكثر مما كان قبل الاتفاق، ويعاد بناء مفاعل أراك للمياه الثقيلة، وغيرها. حينئذ كيف ستتصرف واشنطن؟ وهي التي أوصلت القدرات الصاروخية النووية لكوريا الشمالية إلى ما عليه اليوم بعد إفشالها إتفاقين معها في 1994 و2007. حال حدث ذلك، وفي ظل انعدام الخيار البديل، ستكون إدارة ترامب أمام مأزق أكبر مما عليه اليوم في التعامل مع الشأن النووي الإيراني.


نعم، في ظل الواقع الاقتصادي الإيراني الذي اشعل احتجاجات مؤخرا، سيزيد انهيار الاتفاق هذا الوضع سوءا، لكن في الوقت نفسه يتسبب ذلك بمخاطر أمنية كبيرة على مستوى المنطقة والعالم، ويعرّض الأمن والسلم العالميين لخطر كبير. هذا ما أكد عليه مسؤولون أوروبيون خلال الفترة الماضية، معتبرين أن بقاء خطة العمل الشاملة المشتركة يشكل أولوية أمنية لأوروبا. ما يؤكد أن مخاوف الأوروبيين ليست اقتصادية بالدرجة الأولى أو الخوف من خسارة السوق الإيراني، بل أمنية بامتياز، وعليه يأتي التركيز الأوروبي خلال الأشهر الثلاث الماضية على المنافع الأمنية للاتفاق النووي والتداعيات الأمنية حال انهياره.


هذه الاعتبارات هي التي دفعت المؤسسة الأمريكية إلى الاحتفاظ بالاتفاق النووي، والحيلولة دون تحقق رغبة ترامب الشخصية. في هذا السياق، يُفهم عدم تماهي الكونغرس الأمريكي مع سياسة الرئيس الأمريكي في هذا الصدد، عندما رمى ترامب الكرة في ملعبه في 12 أكتوبر الماضي، لكنه لم يفعل شيئا ضد الاتفاق النووي، ما دفعه أن يرمي الكرة هذه المرة في الملعب الأوروبي بعد شعوره بالاحباط من المؤسسة التشريعية الأمريكية، عسى أن يحقق الاتحاد الأوروبي له المراد.


لعل هنا سؤال آخر يبرز أمامنا، وهو ماذا لو لم تُلب الشروط الأربعة التي حددها ترامب لمواصلة العمل بالاتفاق النووي مستقبلا؟. خاصة بعد أن أمهل ترامب الأوروبيين 120 يوما للتفاوض مع إيران للقبول بالتعديلات ليبقى الاتقاق النووي على قيد الحياة.


النظر في الشروط بعمق، يوحي أنها طرحت لإخراج الرئيس دونالد ترامب من المأزق الذي أوقع نفسه فيه بعد ذلك الوعد العتيد الذي قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية، أما كيف ذلك؟ أولا: مضامين الشروط عامة وقابلة لتفسير موسع وليست حاسمة، ثانيا: بعضها محققة أصلا مثلا الشرطان الأول والثاني، أي "التفتيش" و"عدم السماح بالاقتراب من القنبلة النووية" تحصيل حاصل في ظل نظام المراقبة الشديدة الذي تتبعها الوكالة الدولية، كما يقول الخبير الإيراني في القانون الدولي "رضا نصري".


أما فيما يتعلق بالشرطين الآخرين، أولا الشرط الثالث فهو أيضا عام، لم يحدد ما هي تلك القيود التي يجب أن تبقى بعد 2025 (أي بعد انتهاء صلاحية الاتفاق)، فإذا يقصد منها، القيود الموجودة بموجب نظام المراقبة الدائمة، فهي ستبقى أصلا بعد توقيع إيران على الملحق الإضافي. أما إذا يقصد عدد أجهزة الطرد المركزية وكذلك مستوى تخصيب اليورانيوم، فلماذا لم يتم تحديد ذلك؟ ثم الشرط الرابع يتحدث عن الصواريخ بعيدة المدى ولم يضيف لها صفة البالستية، مما يعني أن الرئيس الأمريكي يقصد الصواريخ العابرة للقارات التي أكد القائد العام للحرس الثوري الإيراني الجنرال جعفري قبل أشهر أن إيران لا تحتاج لزيادة مدى صواريخه إلى أكثر من 2000 كيلومتر، مضيفا أن مدى الصواريخ الباليستية الإيرانية يقوم على أساس المدى الذي يحدده قائد الثورة. بالتالي هذا الأمر سالب بانتفاء الموضوع بالأساس.


عليه، بدا أن هذه الشروط بهذا الشكل الذي يحتمل أكثر من تفسير ومعنى، طرحت كمخرج مستقبلي لحفظ ماء وجه الرئيس الأمريكي.


ليس مستبعدا أن تحصل تفاهمات جانبية بين الإيرانيين والأوروبيين خلال الفترة المقبلة، بشكل منفصل عن الاتفاق النووي، تستخدمها أوروبا في اقناع ترامب بالعدول عن توجهه العدائي ضد هذا الاتفاق، كما من شأنها أن تشكل مخرجا للرئيس الأمريكي أيضا من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، فمن جهة لا يستطيع الانقضاض على الاتفاق النووي لأنه لا يملك بديلا أفضل منه، ومن جهة أخرى، بقاء الاتفاق لا يضر بسمعته فحسب، بل يكبّد يده وإدارته في مواجهة إيران بخيارات غير عسكرية. حيث أنها ترى أنه دون إعادة العقوبات القاسية على إيران، لايمكن الضغط عليها لتقليص دورها الإقليمي أو ما شابه ذلك، وفي المقابل إذا تمت فرض تلك العقوبات مجددا، يعتبر ذلك خرقا سافرا للاتفاق النووي، وهو ما أعجزه بالفعل. 
أخيرا، في ظل ما سبق، على الأغلب ستبقي الإدارة الأمريكية على الاتفاق النووي بعد انتهاء مهلة 120 يوما، لكنها ستكثف محاولاتها الرامية إلى الحد من مكاسب إيران من الاتفاق بشتى الطرق، وخلال هذه الفترة ستبحث عن ذرائع للتهرب من تلك الشروط، سواء عبر سن قانون في الكونغرس يتضمنها دون المساس بالاتفاق النووي أو من خلال تفاهمات جانبية قد تحصل بين أوروبا وإيران لاحقا. أما إن قرّر ترامب الانسحاب منه بعد تلك المهلة، حينئذ ستكون حياة الاتفاق النووي ومماته بيد الأوروبيين، وسيحسم موقف أوروبا مصير الاتفاق. من هذا المنطلق، تشكل الشهور الأربعة القادمة فرصة للجانبين الإيراني والأوروبي لمناقشة مستقبل الاتفاق دون الولايات المتحدة الأمريكية.

 

لمّح إلى ذلك مساعد وزير الخارجية السيد تخت روانجي، بقوله إنه حال خرجت واشنطن من الاتفاق، وظلت أوروبا ملتزمة بتعهداتها وتدارك الأضرار الناتجة عن العقوبات الأمريكية الجديدة، حينئذ سيكون الطرفان الإيراني والاوروبي أمام فضاء جديد.


في هذه الحالة، على الأغلب سيظل الاتفاق النووي قائما ودون واشنطن، إذا ما فعّلت أوربا قانون منع امتثال الشركات الأوروبية للعقوبات الأمريكية كما فعلت ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي، وتعاملت مع الأمريكان بالمثل. حينئذ هل ستضحي أوروبا بمصالحها الاقتصادية المتشابكة مع الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل الحفاظ على أولويتها الأمنية المتمثلة بالاتفاق النووي كما تقول. لعل الأسابيع والأشهر القادمة سوف تجيب عن ذلك.