قضايا وآراء

التغير الثوري الذي تنطوي عليه مسيرة العودة

1300x600

مسيرة العودة التي يعتزم الفلسطينيون إطلاقها بدء من الثلاثين من مارس الجاري لن تكون مجرد فعالية موسمية تنتهي بغروب شمس ذلك اليوم، إنما قد تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، فهي تعبر عن توجه جديد يغادر الأدوات التقليدية في الحياة السياسية الفلسطينية، والمتمثلة تحديدا في خيارين هما المقاومة المسلحة والمفاوضات.

الجديد في مسيرة العودة هو الاعتصام السلمي المفتوح بالقرب من السلك العازل، وهو اعتصام سيكون وفق التصور المرسوم سلميا خالصا لن يستعمل فيه إطلاق الحجارة وإشعال الإطارات، وهي المظاهر التي ارتبطت تاريخيا بالانتفاضات والهبات الفلسطينية، ما يجعل من مسيرة العودة خيارا جديدا لا يمكن تشبيهه حتى بالانتفاضة الأولى التي كان عماد المواجهات فيها الحجر والمقلاع والإطارات المشتعلة.

تستلهم مسيرة العودة تجارب تاريخية مثل مسيرة الملح لغاندي والمسيرة الخضراء التي اجتاز فيها الشعب المغربي حدود الصحراء الغربية التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني عام 1975 ، أما من داخل فلسطين فقد مثل نجاح الاعتصام السلمي أمام باب الأسباط في إسقاط البوابات الإلكترونية الصيف الماضي نموذجا ملهما عزز ثقة الفلسطينيين في قدرة الاحتجاج السلمي على تحقيق إنجازات.

مسيرة العودة إن استوت على سوقها ولم تحد عن المبادئ التأسيسية لها فإنها ستعزز أخلاقية المعركة و تنشر ثقافة السلام و تنقي الأجواء الملوثة بالحروب والمآسي، فالفلسطينيون سيخوضون مواجهتهم هذه المرة ليس بالرصاصة والصاروخ بل بالكلمة والكاميرا والحشد السلمي، وهو ما يعني في أقل تقدير تحييد سلاح طيران الاحتلال وجره إلى أدوات أقل فتكا. لن تكون هناك جماعات مسلحة، بل حشد سلمي فيه النساء والأطفال والشيوخ يهتفون بالكلمة وينادون من أجل الحق والقسط وهم يحملون رسالة سلام بتأكيدهم أنهم لن يلقوا حجرا ولن يشعلوا إطارا، وتأكيدا منهم على الطابع السلمي للحراك فإنهم يؤكدون أن الاعتصام سيبدأ على بعد سبعمائة متر من السلك الفاصل.

مسيرة العودة السلمية تغير طبيعة المواجهة لتصير مواجهة بين الكلمة والقوة، و الكلمة أثر من روح الله في الإنسان، وهي تحتوي قوة كامنة يمكنها أن تغير مجرى التاريخ، و من يتسلح بقوة الكلمة في وجه الظلم فإنه حين ينتصر يضمن نصرا أخلاقيا نظيفا لا تختلط به روح البغي و الاستعلاء على شاكلة انتصار غاندي في الهند.

لكن الشيطان الذي يتغذى من الدماء و العدوان لا تروق له معادلة الكلمة في مواجهة القوة لأنه يستمد شرعيته من أجواء الحروب، لذلك نجد في معاكسة التوجه الفلسطيني الجديد نحو اعتصام سلمي هادئ سعارا من مؤسسة الاحتلال الإسرائيلي باتجاه مسيرة العودة قبل أن تبدأ، هذا السعار تمثل في التصريحات التصعيدية التي أدلى بها مسئولون أمنيون وعسكريون إسرائيليون هددوا فيها هذه المسيرات بالرصاص الحي، كذلك سعي الاحتلال إلى عسكرة جبهة قطاع غزة عبر أكذوبة العبوات على السلك العازل، و قصف الاحتلال غير المبرر في الأيام الأخيرة لقطاع غزة.

إن مشروع الاحتلال الذي يستثمر في صورة غزة المعسكرة المسلحة يجد حرجا في مشهد اعتصام شعبي سلمي في غزة، وستكون هذه الصورة مناقضة لأسس خطابه الدعائي، وهو ما ينبغي في المقابل أن ينبهنا إلى نجاعة أسلوب الاعتصام السلمي كونه يتسبب بكل هذا القدر من الهستيريا للاحتلال قبل أن يبدأ.

الهدف الاستراتيجي لمسيرة العودة هو أن يعود اللاجئون فعليا إلى ديارهم التي أخرجوا منها قسرا قبل سبعين عاما بقوة التدفق الجماهيري السلمي في لحظة مناسبة يقررها الكل الفلسطيني، ربما بعد شهر أو عام أو عامين، لكن ثمة فوائد عدة ستحققها مسيرة العودة قبل هذه الخطوة التاريخية الحاسمة، فالاعتصام السلمي للاجئين يحرر الفلسطينيين أولا من ثنائية المقاومة المسلحة والمفاوضات وهما خياران لا تسمح اللحظة الراهنة لهما بتحقيق إنجازات سياسية، فالمقاومة المسلحة محاصرة سياسيا وهي تفتقد إلى ظهير إقليمي يمكنها من الاستثمار السياسي، ومشروع المفاوضات انتهى مع سقوط خيار الدولتين. 

ثانيا فإن هذا الشكل الجديد من أشكال المواجهة مع الاحتلال يعزز إيجابية الشعب ويفجر طاقاته المعطلة، ويخرج النساء والشيوخ والرجال والروابط الشعبية والمجتمع المدني من حالة السلبية إلى حالة الفعل الوطني ويعزز صورة الشعب في مواجهة الاحتلال، وهو ما يعري دعاية الاحتلال بأنه يواجه تنظيمات مسلحة ويعيد تعريف القضية بأنها قضية شعب يناضل ضد الاقتلاع والتطهير العرقي الذي يمارسه الاحتلال.

كذلك فإن المقاومة الشعبية أكثر تحررا من المقاومة العسكرية لأنها لا تحتاج إلى تمويل كبير ويمكن لأفراد الشعب وعائلاته أن يمارسوها مباشرة، ففي المقاومة الشعبية يمكن لإقامة عرس أو ليلة سمر أو لعبة كرة قدم أو مهرجان ثقافي أو رسوم فنية أو زراعة أشتال زيتون أن تكون شكلا من أشكال المقاومة.

فلسفة الاعتصام السلمي تجعل من مظاهر الحياة العادية مقاومة وصمودا وعنصر أزمة للاحتلال. فالاحتلال يراهن على شطب وجود الشعب الذي أقام كيانه على أنقاضه كما فعلت حليفته مع الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية، فإذا أعلى هذا الشعب صوته وأثبت أنه حي ومتمسك بحقوقه بمظاهر الحياة الطبيعية ووسائل الاحتجاج السلمي كان ذلك عنصر حصار أخلاقي وإعلامي ضد الاحتلال. والمقاومة الشعبية يمكن ممارستها في كل الأوقات عكس المقاومة المسلحة التي تخضع للتدخلات الخارجية التي تحد من حريتها. لكن من الصعب على الأطراف الخارجية أن تطلب من شعب أن يتوقف عن زراعة الأشجار أو إقامة الأعراس أو أداء الصلوات بالقرب من السلك الفاصل. 

كذلك فإن إطالة أمد الاعتصام السلمي في مسيرة العودة سيعمل على إحياء الجبهات الأخرى التي يعيش فيها اللاجئون الفلسطينيون، وهو ما سيؤكد أن قضية الفلسطينيين هي قضية نضال من أجل العودة وليست قضية فك حصار وتحسين شروط الحياة الإنسانية، كذلك فإن هذا الاعتصام السلمي سيعزز حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني وسيقوي أنشطة حركة المقاطعة الدولية التي تعمل على محاصرة دولة الاحتلال، وسيكرس الوجه القبيح لدولة الاحتلال التي ترفض تطبيق قرارات الأمم المتحدة وتعزل نفسها خلف جدران فصل عنصري.

من فوائد مسيرة العودة المعجلة أنها وحدت الفلسطينيين فعليا في برنامج نضالي، يظهر ذلك في تركيبة الهيئة الوطنية لمسيرة العودة التي تضم كل القوى الفلسطينية مضافا إليها مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والحقوقيون والشخصيات المجتمعية، هذا المشهد الوحدوي يجدد الأمل في نفوس الفلسطينيين ويحرك الجمود الراهن ويعيد إحياء المشروع الوطني الحقيقي بعد سنوات من الانقسام والترهل. 

لكن ثمة محاذير ينبغي التنبه إليها كي تمضي هذه التجربة في طريقها نحو تحقيق أهدافها، لعل أهمها أن المجتمع الفلسطيني لم يتشرب بعد ثقافة العمل السلمي، وكي لا يجرنا عدونا إلى المربع المريح له فإن علينا أن نتذكر أن أي تكلفة للنضال السلمي ستكون أقل من تكلفة الحروب، ومثال حرب 2014 قريب منا إذ قتل ألفان ومائتا فلسطيني دون تحقيق أي إنجاز سياسي، لذلك فإن التمسك بسلمية الاعتصام ليس مرده البعد الأخلاقي وحسب بل إن مصلحتنا تقتضي التمسك بهذا الخيار وإن حاول العدو إفشاله، ولو لم يكن الاحتلال منزعجا من هذا الاعتصام السلمي لما ظهر جنونه في السلوك الميداني والإعلامي في الأسبوعين الأخيرين، فهل يعقل أن نتطوع لإنقاذ عدونا من ورطته الأخلاقية والانجرار إلى المربع الذي يريده؟ 

يتحمس الناس للعمل العسكري بحكم الطبيعة الغرائزية التي تدفع الإنسان لرد الفعل الاندفاعي ولأنهم يرون أثرا ماديا سريعا للعمل العسكري يتمثل في قتل وإصابة عدد من الجنود، لكن فلسفة الاعتصام السلمي تقوم على تغليب العقل على العاطفة، وهدف النضال الوطني ليس قتل بضعة جنود بل محاصرة مشروع الاحتلال واستنزافه، وهو ما تحققه فكرة الاعتصام والمسيرات السلمية، لذلك فإن الفلسطينيين مطالبون بعد تبنيهم خيار مسيرة العودة الكبرى بحكم ضغط الواقع إلى خطوة أخرى نحو الأمام وهي أن يكون هذا الخيار استراتيجيا ثابتا لا يهتز أمام استفزازات العدو أو تغيرات الواقع.

ثمة محذور آخر، وهو الخلط بين مسيرة العودة وكسر الحصار، فكسر الحصار وإن كان ملحا إلا أنه قضية إنسانية لا تلغي جوهر مشكلتنا السياسية، وحصار غزة لم يكن إلا من أجل الضغط السياسي، ومسيرة العودة هي مسيرة حقوقية تهدف إلى النضال من أجل العودة الفعلية إلى ديارنا، لذلك لا يجوز تشويه المبادئ الكبرى بتوظيفها في سبيل أهداف صغيرة ، ولو فتحت أبواب الدنيا على غزة وتدفق إليها الدعم من كل جانب فإن مسيرة العودة يجب أن تظل ماضية في اتجاه هدفها الرئيس، والمبرر الوحيد لتوقف مسيرة العودة هو عودة اللاجئين الفعلية إلى ديارهم.

هذه فرصة تاريخية يمكن أن تحيي القضية الفلسطينية من مواتها وتعيد تصحيح البوصلة الوطنية وتخرج مشروع الاحتلال من حالة الاستقرار التي ينعم بها وتجره إلى معركة استنزاف أخلاقي وسياسي وإعلامي بأسلوب سلمي، لكن ذلك كله مرتبط بوعينا بأهمية هذا الخيار الاستراتيجي وبإعطائه فرصة كاملة للنجاح وممارسته على الوجه الصحيح.