قضايا وآراء

أردوغان.. داود أوغلو.. غُل: رجال بحجم التحديات المحيطة بتركيا

1300x600
منذ إعلان الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في 18 من نيسان/ أبريل الماضي؛ عن تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية في يوم 24 من حزيران/ يونيو المقبل، أي قبل التاريخ المقرر رسميا في 3 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، استجابة لرغبة طرف من المعارضة، بخاصة الحليف الأساسي زعيم الحزب القومي "دولت بهشتلي".

منذ 18 من نيسان/ أبريل حتى السبت الأخير من نيسان/ أبريل، 10 أيام كانت حساسة لمتابعي الشأن التركي ومحبي الخير لهذا البلد المتوجه بقوة نحو النهضة والتقدم.

كان إعلان الرئيس التركي نظرا للظروف الحساسة المحيطة بالبلاد خارج حدودها في سوريا والعراق، وللوضع الاقتصادي الداخلي الذي يجعل الدولار الأمريكي يصعد أمام الليرة المحلية على نحو غير مسبوق.

ومن ناحية أخرى، تفعيلا للاستفتاء الذي جرى في نيسان/ أبريل الماضي بالتوجه نحو النظام الرئاسي، وما يتطلبه من إلغاء منصب رئيس الوزراء. وفي جميع الحالات، فإن الرئيس التركي أدرك أن التحديات المحيطة بالبلاد تستوجب الاستغناء عن قرابة عام ونصف العام من انتظار الانتخابات الرئاسية والتشريعية للتعجيل بانتخابات مبكرة، يترشح فيها، وفقا للاستفتاء، لفترتين رئاسيتين؛ مدة كل منهما خمس سنوات.

ومع ما تمثله الدعوة لانتخابات رئاسية من مخاطرة، إلا أن حزب "العدالة والتنمية" التركي الحاكم اعتاد الاستناد إلى رصيد ضخم من الإنجازات العملية، وبالتالي منازلة الصعاب والتغلب عليها بأخذ الأسباب والعمل والجاد والحيطة ما أمكنه. حدث ذلك من قبل في الانتخابات البرلمانية في حزيران/ يونيو 2015م، والتي لم تؤد إلى نيل الحزب الأغلبية المطلقة البرلمانية، مما هدد مشروع تمرير التحول للنظام الرئاسي بالاستحالة، ليعمد الرئيس التركي إلى إنهاء فترة البحث عن توافق مع الأحزاب الأخرى للوصول إلى الأغلبية، وبالتالي يدعو - في تحدٍ لم يكن بالسهل ولا بالقليل - لإعادة الانتخابات، وفق القانون التركي.

وفي الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام، مع انتخابات الإعادة البرلمانية، نال الحزب الحاكم الأغلبية المطلقة المطلوبة، لتكون فرحة أنصاره ومحبي تركيا في العالم لا تعادلها أو تفوقها إلا فرحة نجاة تركيا من محاولة الانقلاب العسكري الغاشم في منتصف تموز/ يوليو 2016م.

وفي المُنتصف من هذه الأحداث برزت للساحة وجوه تركزت الأضواء عليها سواء مع المسيرة التركية الهادرة نحو النهضة ومن ثم التقدم أو ضدها، فكان أن تم استدعاء"فتح الله غولن" بقوة إثر المحاولة الانقلابية، ودوره الذي تؤكده السلطات التركية في الحض على المحاولة الانقلابية، كما برز انسحاب رئيس الوزراء التركي السابق، "أحمد داود أوغلو"،  المشرف من السلطة، في الأسبوع الأول من أيار/ مايو 2016م، إثر استقالته من رئاسة الحكومة ورئاسة الحزب الحاكم.

وبقدر ما جاء موقف "غولن" مخيبا للآمالـ بقدر ما علم "داود أوغلو" العالم درسا في ممارسة السياسة بنزاهة وترفع وعمق تفكير، ذلك الموقف الذي يُذكر بالسياسة في أوج تقدم ورقي وصعود الحضارة الإسلامية على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين.

وقف "داود أوغلو"، فور طلب الاستقالة منه، ليقول مساء يوم انسحابه من المشهد السياسي، بمنتهى القوة والحكمة النادرين في عالم اليوم، والسياسة التي صارت مرتعا للمصالح الشخصية والارتقاء على حساب المبادئ والقيم إلا ما ومّنْ رحم ربي: "هذه الدنيا التي يتزاحمون عليها؛ سأزيحها بطرف يدي".

وفي الصباح، كان يقول في آخر خطاب له: "أعرف الرئيس أردوغان، وعلاقتي تمتد معه إلى قرابة ربع القرن، ولا أقبل أن يتحدث أحد عن عرضه أو شرفه.. مثلما لا أقبل أن يتحدث أحد عن عرضي أو شرفي.. فأردوغان عرضه عرضي وشرفه شرفي".

وبعدها عاد "داود أوغلو" لقونية، مسقط رأسه، كنائب في البرلمان عنها ومحاضرا بالجامعة، ليستقبل استقبال الأبطال في شوارعها.. وكم سالت دموع لنزاهة وشرف موقفه وإيثاره مصلحة بلاده على مصلحة نفسه الخاصة.

كان "داود أوغلو" مثال النزاهة والشرف في استقبال تحدٍ جديد، يوم أعلن "أردوغان" تقديم موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، وخشي الملايين على الرجل الباهر الأصل، القوي في استبعاد المصلحة الشخصية والتطلع إلى خير بلاده ومن ثم الأمة، فوقف إلى جوار الرئيس "أردوغان" ليلة المحاولة الانقلابية، وتوجه إلى البرلمان وتحدث في الإعلام معلنا مناصرته للرئيس الذي دفعه إلى الاستقالة قبلها بأسابيع قليلة، ثم موجها خطابا بالإنجليزية لرؤساء العالم؛ موضحا له خطورة الانقلاب على الديمقراطية في تركيا، وأخطار الانقلابيين الفشلة.

بعد ثمانية أيام من إعلان الرئيس "أردوغان" عن الانتخابات المبكرة، كان "داود أوغلو" على موعد مع نتيجة اختبار جديد، إذ إن قوى المعارضة كانت تهيئ له استخدام الديمقراطية كمطية للخروج على "أردوغان"، وكسر النواة الصلبة للحزب الحاكم بإعلان "داود أوغلو" ترشحه للرئاسة، وهو الأمر الذي كان سيسر الغرب ويمثل خطورة كبرى على وحدة وتماسك الحزب الحكم.

لكن الخميس 26 من نيسان/ أبريل الماضي حمل أنباء سارة لمحبي مسيرة "داود أوغلو"، الرجل والإنسان السياسي، إذ عقد مؤتمرا صحفيا في مقر البرلمان التركي في أنقرة ليقول فيه بقوة:

"الرئيس أردوغان المرشح الوحيد لحزب العدالة والتنمية.. ولم أكن من قبل ضمن أية فعاليات أو نشاطات سياسية خارج حزب العدالة والتنمية، وليست لدي النية للقيام بمثل هذا الأمر.. ولو كنت أنوي فعل هذا لتخليت عن هوية حزب العدالة والتنمية، وأنا لا أفكر قطعا بالتخلي عن هذه الهوية، لا الاَن ولا مستقبلا.. ومن هذا المنطلق، فقراري بخصوص المرشح للانتخابات الرئاسية هو نفس القرار الذي اتخذه حزب العدالة والتنمية، الرئيس أردوغان هو مرشحنا جميعا".

كلمات أثلجت قلوب الكثيرين وطمأنتهم إلى أن من الرجال مَنْ لا يتغيرون مهما حدث.

ثم طارت المخاوف إلى "عبد الله غُل"، الرئيس التركي الأسبق (آب/ أغسطس 2007 - آب/ أغسطس 2014م)، وهو رفيق "أردوغان" في تأسيس الحزب الحاكم اليوم، بخاصة مع ترشيح "حزب السعادة" لـ"غُل" كمنافس لـ"أردوغان"، وبالتالي كانت زيارة "غُل" لمنزل "أوغلو" يوم الخميس نفسه الذي أعلن الأخير فيه عدم ترشيح نفسه.

إن ثبات رجل حقيقي يؤثر في أمة إن وفق الله وأراد، وكان موقف "داود أوغلو" كذلك إذ قال لـ"غُل":

- إنني احترمك كرئيس سابق لتركيا، لكنني لا أدعمك فيما هو أبعد".

وبعد ذلك بيومين اثنين (السبت 28 من نيسان/ أبريل الماضي)، وقف "غُل" في أنقرة، أيضا، ليقول في كلمات تنم عن فهم أبعاد التحديات والاقتضاء بـ"داود أوغلو":

"وصلتُ إلى أعلى ما يستطيع المرء الوصول إليه، ولا توجد لدي رغبة في العودة إلى رئاسة تركيا".

إن موقف "غُل"، أيضا، يؤيد موقفه الداعم لـ"أردوغان" إزاء المحاولة الانقلابية وينحاز لصالح بلاده دون صالحه الشخصي.

ويكون "داود أوغلو" و"غُل" بذلك رجلين ينظر إليهما في ثبات الديمقراطية وحسن الطوية والنية والتوجه، ولا يقارنان بأولئك الذين يخونون الأوطان في لحظات الحرج، أو بما فعله أعضاء ما سُميَ بجبهة الإنقاذ في مصر مع الدكتور "محمد مرسي"، إذ استدعوا العسكر للعصف بأول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر، وأمثال هؤلاء نأنف ونترفع عن ذكر أسمائهم.

حفظ الله تركيا برجالها وعلى رأسهم "أردوغان"، و"داود أوغلو"، و"غُل"، وأبقاهم وأبقاها.. ووفقهم لمواجهة التحديات والمزيد من التغلب على أهواء وآفات النفوس.