قضايا وآراء

كيف تصبح "ديمقراطيا"؟

1300x600
من المهم أن نتفق على معنى موحد قبل الخوض في الإجابة، إلا أنه – ربما بالنسبة لي على الأقل – أجد تضاربا ما، وهذا بالتأكيد ليس خطأ أحد غيري، وأعني قطعا الجانب العملي والتطبيقي للمصطلح، وكذلك الموجود في آلاف الكتب والإصدارات. فربما نتحدث بمصطلح واحد ولكن المضامين ليست واحدة، وفي هذه الحالة يجب أولا أن أوضح المشكلة.

إن أي حوار حول توصيف ما؛ يدور في ثلاثة مستويات، الأدنى هو المستوى الإجرائي التنفيذي، والثاني هو مستوى الأفكار، والثالث هو مستوى الأيديولوجية الضابطة للأفكار. فمثلا عند قيامك بشراء قطعة سلاح، فبالتأكيد هذا بسبب فكرة ما قد اقتنعت بها، مثل أن مستوى الأمن منخفض ويجب أن أحمي نفسي، ثم تأتي المظلة الأكبر التي تعبر عن المفاهيم الكبرى "الأيديولوجي"، والتي تعطي الحق في ذلك، حتى لو كانت مخالفة للقانون. إذن، فإن أي إجراء ليس محايدا. سنعود لذلك لاحقا.

وأرى أن الخلل في فهمي للمعنى المراد من هذا المصطلح ناتج عن أن الحوار حولها لا يضبط في البداية في أي مستوى نتحدث. وربما تلك هي المشكلة، فهناك من يتحدث عن الديمقراطية في مستوى الإجراءات، فهي مجرد مجموعة من الوسائل لكي يختار الشعب من يدير السلطة بإجراءات محددة، مثل العملية الانتخابية برمتها وحرية الصحافة والتعبير والحرية الشخصية، هنا يأتي خلل ما، فمن يفعل ذلك يرى أنه ديمقراطي، ولكن هناك وجهة نظر أخرى أكثر عمقا.

إن الديمقراطية الغربية الحديثة هي نتيجة تطور اجتماعي وسياسي عبر قرون من التفاعل داخل المجتمع الغربي، وبالتالي لا يرى الغرب الديمقراطية مجرد إجراءات لتداول السلطة؛ ولكنها أكثر عمقا من ذلك، فهي تعبير طرفي عن أفكار متكاملة من وجهة نظره، لذلك لا يمكنك استخدام نتيجة كل هذا التراكم، بل وتغير معناه ليتوافق مع رؤيتك.

فهناك بديلان: إما أن تأخذ النموذج كاملا بكل ما نراه صحيحا ولا تكتفي فقط بالنتيجة الطرفية "الديمقراطية"، وإما أن تخوض التجربة التي خضناها عبر قرون طويلة. فنحن نرى أنك حتما ستصل لما وصلنا إليه من ضرورة علمنة الدولة، أو ستصل لنموذج جديد لا نعلمه ولا نعتقد ذلك، ولكن المرفوض أن تتلاعب بالنموذج وتأخذ ما تريد وتترك ما تريد.

إن المجتمع الغربي استطاع الإجابة عن الأسئلة الكبرى عبر تجربته الطويلة من العصور الوسطى حتى الحرب العالمية الأولى، وتتفق أو تختلف مع هذه التجربة، ويمكنك حتى أن تعتبرها معادية للبشرية.. لا مشكلة، إلا أنها تجربة أفرزت منتجا ما، فلتقبله أو ترفضه، أما التلاعب بمعانيه فأنا على المستوى الشخصي أرى أنه غير عادل.

يمكنك في الديمقراطية بالمفهوم الغربي أن تغير في الإجراءات التنفيذية كيف تشاء، فيمكنك رفع سعر الفائدة أو تخفيضها.. يمكنك تغيير القوانين الضريبية، ويمكنك فعل أشياء كثيرة في مستوى الإجراءات، وبما أنها غير محايدة، فكل إجراء وراءه فكرة تدفعك لفعله. ولا مشكلة، فهناك مجموعة من الأفكار الجاهزة، ولا مانع من مناقشتها بل وعمل أشياء مخالفة لها ما دامت تحت المظلة الكبيرة، فحذار أن يكون تخفيض سعر الفائدة الهدف منه ليس تشجيع الاستثمار الخارجي، وحذار أن يكون في مسار الحد من التعامل الربوي على سبيل المثال.

لقد حارب الغرب الأفكار الشيوعية بالرغم من علمنتها أيضا، ولكنها تريد تغيير ليس فقط بعض الأنماط الاقتصادية، بل تريد تغيير كل نمط السلطة وشكلها، وهذا غير مقبول، ويتهم فورا بالاستبداد والديكتاتورية. فالقضية ليست في كيف جاء إلى السلطة، ولكن القضية هل يحافظ على النموذج الذي قررنا أنه ديمقراطي، فلا مشكلة أن تأتي بعشرات الملايين من الأصوات وبدعم شعبي هائل، وما حدث في أمريكا الجنوبية خلال القرن السابق ربما دليلا مناسبا لهذا القول.

وحتى الآن؛ لا تزال الكثير من الدول تكون إجاباتها على الأسئلة الكبرى مخالفة للإجابات الحاسمة النهائية للنموذج الغربي، لذلك فغير مسموح لها بأخذ الجانب الإجرائي فقط للوصول لنموذج حكم مختلف، سواء كان ذلك بتغيير سريع ومتوال لنمط الحكم، أو حتى بتغيير بطيء على المدى الطويل.

ففي مصر يحاول الكثيرون تأكيد التزامهم بالديمقراطية كوسيلة وحيدة لتداول السلطة، وهم صادقون بالتأكيد، ولكنهم لأنه يملكون أيديولوجية ما ستجيب بإجابات مختلفة عن الأسئلة الكبرى المحسوم إجابتها عند المالكين للنموذج، فإنه كاذب كذبا متكاملا في نظرهم، وهم أيضا صادقون من وجهة نظري، ولذلك لا يمكن للغرب أن يقبل بانقلاب عسكري في دوله، لأنه ضد النموذج الكامل ومدمر لحضاراته، ولكنه يقبله، بل يدعمه ويديره في أي مكان يشعر فيه بالانحراف عن النموذج.

فعندما يعتبر الإسلاميون الراديكاليون أن الديمقراطية الغربية كفر بواح؛ فهم صادقون. ففي المستوى الأيديولوجي، غير مقبول إلا أن تكون علمانيا لتكون ديمقراطيا، وكذلك الماركسيون عندما يقولون أن الديمقراطية لا يمكن حدوثها في مجتمع رأسمالي، وأنها وسيلة لسيطرة البرجوازية على الطبقة العاملة، وأن الديمقراطية هي سيطرة للطبقة العاملة على السلطة. وقد ظهرت مقولة شهيرة "لو أن الاقتراع يفيد حقا، لمنعوه"، وهم صادقون طبقا للفكر الماركسي، وهذا مخالف لبنية النموذج، لا من حيث علمانيته ولكن في هيكل السلطة المتفق عليه ككل.

إذن الجميع على صواب حول نظرته للديمقراطية، ولذلك جزء من تطور الدعوة للمجتمع العلماني الديمقراطي الليبرالي والوصول لنهاية التاريخ هو تجاوز الأيديولوجي. والكثير من الدعوات الحالية تدعو فعلا لذلك.. دعنا نتجاوز أفكارنا ونبدأ في البناء الإجرائي، وأعتقد أن من يقول ذلك إما أنه لا يمتلك فعلا أيديولوجية ما، أو أنه يحاول الخداع، فكما ذكرنا لا يوجد إجراء محايد، والتجربة الغربية عند تعاملها مع من قالوا هذا القول لم تكن جيدة، وبالتالي لن يقبلوه مجددا.

ويأتي العنصر الحاسم، وهو السيادة والقوة معا، ليمكنك فرض وجهة نظرك. فعندما تمتلك فعلا الدعم الشعبي ولكنك لا تمتلك السيادة على مؤسسات، فهناك أحد ما يمتلك تلك السيادة، وهو في الغالب العدو، وسيتم سحقك، لذا فمحاولة فرض وجهة نظرك تحتاج إلى القوة ليمكنك استكمال رحلتك، وربما الحرب الشعواء على تركيا الممتدة منذ سنوات تؤكد ما قيل حتى الآن.

انقلاب عسكري، حرب اقتصادية، اتهام بالديكتاتورية، تدخل معلن في المعارك السياسية.. وربما لن يتوقف الأمر، فهي واحدة من محاولات صناعة نموذج بديل، ليس بالضرورة أن يكون إسلاميا كما يأمل البعض، ولكنه في كل الأحوال أكثر عدالة، وهذا خطير للغاية على الغرب، ولهذا حديث آخر.

فإذا أردت أن تكون ديمقراطيا كما صاغها (الديمقراطية) أصحابها، فلا بد ألا تحمل أيديولوجية مخالفة وإلا سيتم الانقلاب عليك من فرسان المعبد العلماني الليبرالي المنتشرين في كل الدول. ولكي تنجو، فعليك أن تخرج فرسان المعبد من أرضك حتى يمكنك ممارسة الديمقراطية الإجرائية التي تؤمن بها، فالإيمان وحده لا يصنع دولة ولا نظاما.