كتاب عربي 21

التصفية السياسية وتآكل النظام الرسمي العربي

1300x600
ليست "جريمة اغتيال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي" أول الجرائم السياسية للنظام الرسمي العربي ولن تكون الأخيرة طبعا. فرضية التصفية الجسدية صارت شبه حقيقة بعد أن أكدتها  مصادر عديدة رسمية وغير رسمية من داخل البلاد التركية ومن خارجها بعد أن دخل على خط الأزمة مسؤولون أمريكيون وغربيون من أعلى مستوى بينهم نواب بالكونغرس الأمريكي وبعد أن أخذت التحقيقات في اختفاء الرجل تتجه نحو التحقيق الدولي إذ توشك بأن تتسبب في ارتدادات سياسية ودولية حاسمة. 

تاريخ النظام القمعي العربي حافل بالجرائم في حق الأفراد والشعوب والطوائف والأقليات بشكل يكاد يسم أهم خصائص السلطة السياسية العربية منذ نشأتها. فقد عمل النظام السياسي على جعل القبضة الأمنية أهم الوسائل في تحقيق سيطرته على الدولة والمجتمع على حد سواء لأنه لم يكن يملك سواها، فحتى الثروات التي تزخر بها البلاد العربية إنما تكون وجهتها بنوك أوروبا أو صفقات أسلحة لن يستعملها النظام إلا في تصفية شعبه أو هي تدفع على شكل جزية أو في صورة عقود تسليح ضخمة. 

العقل السياسي العربي فصاميّ النزعة فهو من جهة أولى يوغل في الترويج لشعارات براقة من  "احترام حقوق الإنسان" إلى "فرض دولة القانون" إلى "احترام الأقليات" وصولا إلى "صون حقوق الإعلام والإعلاميين". لكنه من جهة الممارسة يكرس نقيض هذه الشعارات من خلال التنكيل بالأفراد والجماعات وخنق حرية التعبير وتصفية المعارضين وقمع الرأي المخالف الذي تدخل في إطاره الجريمة الأخيرة في حق واحد من أبرز الكتاب والصحفيين العرب على الإطلاق.

سلوك مرضي

مقاربة هذا السلوك المرضي في الخطاب والممارسة تكشف أنه يتأسس على مبدأين يسمان وعي العقل السياسي العربي الرسمي. فأما الشعارات التي يرفعها فهي تتجه أساسا إلى الخارج لا إلى الداخل يبحث عبرها نظام القمع عن شرعية خارجية ومن أجل أن يتفادى الإحراج في محافل العرّاب الدولي الذي يحرص على أن لا يتورط الوكيل في خرق الشعارات التي صنعها هو أمام الرأي العام وليظهر دائما بمظهر الساهر على تطبيق القانون. وأما سياسة القمع والتنكيل والتصفية فهي موجهة أساسا إلى الداخل إذ تمثل شرط وجود النظام نفسه فعبرها يتماهى مع نفسه ومع منطقه الداخلي في إدارة الفرد والثروة والجماعة وبها يشد أواصر النظام.

لكن حدثا مفصليا جليلا يُلزم هنا بإعادة تبين قدرة النظام الرسمي على المضي في التحرك عبر هذين المسارين داخليا وخارجيا. ثورات الربيع أو ثورات الشعوب تشكل مرحلة فاصلة في عمر الممارسة السياسية العربية المعاصرة لأنها كانت قادرة وفي فترة زمنية وجيزة على ضرب أسس هذا النظام وعلى الإطاحة بأركان أصيلة وأعمدة أساسية من أعمدته. 

إن أهم محرك من محركات الثورات العربية الأخيرة كان الغضب من الممارسة القمعية للسلطة السياسية فنظام بن على في تونس والقذافي في ليبيا والأسد في سوريا كانت كلها أنظمة دموية مارست في حق معارضيها أبشع أنواع القتل والتنكيل بمباركة دولية أو بصمت خجول يعكس ضوءا أخضر صريح على الإمعان في نفس الممارسات. 

دروس الثورات

لكن الثابت الأكيد هو أن النظام الرسمي العربي لم يتعلم من دروس الثورات شيئا ولم يعمل حفاظا على نفسه على السعي إلى تجاوز الشروط التي أدت إلى اندلاع الموجات الثورية. يعمل العقل السياسي العربي ـ هذا إن وجد أصلا ـ على تجديد الممارسة القمعية بشكل أكثر توحشا ودموية من ذي قبل ضاربا بعرض الحائط قدرة الفعل القمعي الفردي على نسف كل البناء الاستبدادي كما هو الحال في شرارة الثورة التونسية. لكن هل يدرك هذا النظام أن أعظم دروس الربيع إنما تتمثل في تبيان عجز الممارسة القمعية والأمنية على تأمين البناء السياسي على المديين المتوسط والبعيد؟ ألم تندلع شرارة الربيع بسبب جريمة قمعية فردية؟ ألم يفهم النظام أنه لا بد عليه من تجديد آلياته ليستطيع المحافظة على نفسه؟

لا يبدو النظام القمعي العربي واعيا بهذا الأمر ولا يبدو بالقدرة والذكاء والاستقلالية التي تسمح له بأن يجدد أداءه السياسي ويوفر على شعبه حروبا ومجازر وويلات. يبدو أيضا أن البنية السياسية العربية مسكونة بالرغبة الجامحة في استعادة النسق القديم السابق للثورات لما يوفره لها من راحة ومن سكينة ومن قدرة على التنكيل المقترن بالنهب دون حسيب أو رقيب. لكن من جهة أخرى يبدو النظام العربي غير قادر على تجديد نفسه لأنه بكل بساطة لا يمكنه ذلك فكل تغيير في البناء سيفقده شرط وجوده. لا يمكن للبناء الرسمي العربي إلا أن يكون قمعيا لأنه تأسس على القمع وبالقمع وللقمع. 

إن كل إيغال من السلطة السياسية العربية في القمع والتنكيل وتصفية المعارضين ليست إلا تأكيدا جديدا على أنه استنزف كل شروط وجوده وعلى أنه يعيش أطواره الأخيرة. لن يسقط النظام الاستبدادي العربي من الخارج لأن الخارج يمده بأسباب الحياة حفاظا على مصالحه ولن يسقط إلا من الداخل عندما يُسقط نفسه بنفسه فيتآكل وينتحر بعد أن رفض كل فرص التجديد رغم كل الدروس. 

جرائم الطغاة العرب في حق شعوبها وفي حق المعارضين ليست إلا تسريعا لإنهاء الطور الأخير من نظام الوكالة العربي الذي وضع الأمة خارج التاريخ ومنعها كل أشكال التحرر والنهوض.