قضايا وآراء

عن النزاع الإيراني ـ الأمريكي في محكمة لاهاي

1300x600
بعد أن تقلد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مقاليم الحكم أصبح يتخذ الصراع بين طهران وواشنطن يوما بعد يوم أبعادا تصعيدية جديدة زادت من حدة التوتر بين الجانبين. وانتقل هذا الصراع المتجدد بقوة في عهده إلى أروقة الأمم المتحدة خلال الآونة الأخيرة سواء في الجمعية العامة، أو مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية ومؤسسات أخرى تابعة لهذه المنظمة الدولية. 

فبعد معركة سياسية في اجتماعات الدورة الـ 73 للجمعية العامة، وكذلك الجلسة الخاصة لمجلس الأمن حول إيران في 26 أيلول/سبتمبر الماضي برئاسة ترامب نفسه، تشهد محكمة العدل الدولية معركة من نوع آخر بين الطرفين منذ تمّوز/يوليو الماضي.

شكاوى إيرانية

المواجهة القضائية بدأت بعد أن تقدمت طهران بشكوى إلى المحكمة ضد واشنطن بسبب إعادة فرض العقوبات عليها بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي في الثامن من أيار/مايو. لم تنته هذه المعركة حتى بدأت الأخرى بين الجانبين في أروقة المحكمة على ضوء دعوى إيرانية أخرى ضد الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تجميد ملياري دولار من الأرصدة الإيرانية. 

خلال العقود الأربعة الماضية منذ قيام ثورة 1979 إلى اليوم وقعت خمس معارك قضائية بين طهران وواشنطن في محكمة العدل الدولية، ففضلا عن الحلقتين الأخيرتين، هناك ثلاث حالات أخرى؛ الأولى دعوى أمريكية بعد سيطرة الثوار الإيرانيين على السفارة الأمريكية، وأخذ أمريكيين رهائن، انتهت إلى صدور قرار لصالح واشنطن ألزمت طهران بالإفراج عنهم، والثانية شكوى إيران بعد إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية طائرة الركاب الإيرانية في 17 أيار/مايو 1989 والذي راح ضحيته 290 شخصا، انتهت الشكوى إلى تسوية بين الطرفين خارج المحكمة، دفعت واشنطن بموجبها تعويضات لطهران. والحالة الثالثة هي دعوى إيران أمام المحكمة بعد الهجمات الأمريكية على محطاتها النفطية أثناء الحرب الإيرانية العراقية. في هذه الحالة، المحكمة رفضت طلب إيران بإجبار الولايات المتحدة على دفع تعويضات لضحايا الهجوم، لكنها لوحت في قرارها إلى استخدام الأخيرة القوة بطريقة غير قانونية.

مفارقة طريفة

من المفارقة والطرافة أن جميع هذه الدعاوى سواء تلك التي رفعتها واشنطن أو أقامتها طهران استندت إلى معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين عام 1955 في العهد البهلوي الثاني، والتي تتعلق بالعلاقات الاقتصادية والرسوم القنصلية، والغريب أنها ظلت قائمة وسارية بعد القطيعة الدبلوماسية عام 1980، لأن أي من الطرفين لم يقم بإلغائه حسب الآلية المندرجة فيها. 

ظلت تحافظ واشنطن وطهران على "الصداقة على الورق" طيلة 39 عاما بعد القطيعة السياسية، وحينما يتصاعد العداء ويصل إلى نقطة خطيرة، تتذكران تلك الصداقة المنتهية دبلوماسيا والمتبقية حقوقيا، لتوظيفها ضد بعضهما البعض في المحاكم الدولية التي بدورها ارتكزت عليها للفصل في الدعاوى المرفوعة من قبل الجانبين.

وعليه، كسبت طهران الجولة ما قبل الأخيرة من هذا النزاع القضائي بعد أن أصدرت محكمة لاهاي قرارا مبدئيا ملزما في الثالث من تشرين الأوّل/أكتوبر، أمرت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية برفع العقوبات عن السلع ذات البعد الإنساني، مثل الأدوية والمواد الطبية والغذائية والمنتجات الزراعية وسلامة الطيران المدني. علما بأن القرار النهائي سيستغرق صدوره سنوات عدة. 

على الأغلب سوف تكسب طهران الجولة الأخيرة أيضا لهذا النزاع القضائي بشأن تجميد واشنطن ملياري دولار من الأرصدة الإيرانية بعد انتهاء جلسات الدفوع للجانبين يوم أمس الجمعة. هذه الأرصدة تعادل قيمة سندات اشتراها البنك المركزي الإيراني في عهد الرئيس أحمدي نجاد في لوكسمبورغ، تبينت لاحقا أنها تعود لبنك أمريكي، جمدتها المحكمة الأمريكية العليا في 20 إبريل/نيسان الماضي للتعويض على ضحايا أمريكيين لتفجيرات بيروت في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1983، اتهمت المحكمة إيران بالضلوع فيها. 

انتصار منقوص 

بغض النظر عن طبيعة القرار المرتقب للمحكمة حول قضية تجميد ملياري دولار، والذي لا يبدو أنه سيصدر قريبا، فالقرار الأخير الصادر عن المحكمة بشأن العقوبات الأمريكية يمثل انتصارا سياسيا وحقوقيا لإيران من جهة، وعزلة قانونية دولية للولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، بعد أن وضعت نفسها في عزلة سياسية بالانسحاب من الاتفاق الدولي المسنود بالقرار رقم 2231 الصادر من مجلس الأمن. مع ذلك، فإن تلك العزلة لا ترغم الإدارة الأمريكية على مراجعة سياساتها إزاء إيران، وربما تدفع ترامب إلى مزيد من التصعيد، أما أنها ستفقد واشنطن اجماعا عالميا في هذه المواجهة، مما يفتح نوافذ للالتفاف على العقوبات والمناورة أيضا أمام طهران. 

كما أن هذا الانتصار القانوني سيبقى معنويا بالنسبة لإيران دون أن تكون له آثار عملية تذكر، لأن القرار أولا رغم طبيعته الإلزامية، يفتقر إلى ضمانات تنفيذية لازمة، لأنه في نهاية المطاف إن رفضت واشنطن الإمتثال له، سيتم إحالة الموضوع إلى مجلس الأمن الذي تسيطر الولايات المتحدة على قراراته بفعل حق النقض، وثانيا، القرار لا يلامس العقوبات الأساسية التي بدأت تفرضها الإدارة الأمريكية أو ستفرضها لاحقا بعد الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل مثل حظر النفط، والتعاملات البنكية، كما أن العقوبات التي وردت في القرار لم تفرض في غالبيتها بالأساس.

ثم إن القرار المرتقب للمحكمة بشأن النزاع الأخير وإن كان في صالح إيران وأمرت المحكمة بالإفراج عن المليارين فعلا، ففي ظل ما ذكر سالفا، لا ضمان أن يلتزم الرئيس ترامب به في ظل عدائه السافر للمحكمة، والذي تبين أكثر في خطابه أمام الدورة الـ 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة. فضلا عن أن صدور القرارات النهائية لمحكمة لاهاي بشأن هذه الملفات، سوف يستغرق سنوات عديدة، ولذلك ليس مستبعدا أن تتغير طبيعتها بحيث تختلف عن الأحكام المبدئية. 

بيد أن مكاسب إيران من النزاع الراهن في محكمة لاهاي مع الإدارة الأمريكية سياسية وقانونية، دون أن تأتي عليها بمردود اقتصادي للأسباب سالفة الذكر، إلا إذا التزمت الولايات المتحدة الأمريكية فعلا بالقرار المرتقب للمحكمة بشأن المليارين المجمّدين، والذي على الأغلب ستقضي المحكمة بالإفراج عنهما. 

وأخيرا، فإن قيام واشنطن بإلغاء معاهدة الصداقة مع إيران بعد 63 عاما من إبرامها، لا يبطل مفعولها فورا إلا بعد عام من هذا الإعلان حسب المنصوص عليه في البند الثالث للمادة رقم 23 في المعاهدة. وهذا بحد ذاته بعد سريانه ينهي النزاع القضائي في أروقة محكمة لاهاي الدولية بين الجانبين، والتي ظلت تقبل بالنظر إلى الدعاوي الإيرانية والأمريكية ضد بعضهما البعض بناء عليها، بالتالي ستنتهي هذه الصداقة نظريا على الورق، كما انتهت عمليا على أرض الواقع قبل 39 عاما.