كتب

من تجربة الإسلاميين في المغرب: من الدعوي إلى السياسي (2-2)

المغرب إسلاميون

يواصل الكاتب والباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي بلال التليدي، في الجزء الثاني من عرضه لكتاب الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، المهندس محمد الحمداوي: "العمل الإسلامي.. بدائل وخيارات"، تتبع أهم التحولات الفكرية والسياسية التي عرفتها الحركة الإسلامية المغربية في تاريخها الحديث.

ويسلط التليدي الضوء على مميزات الحركة الإسلامية المغربية، وأهم إنجازاتها الدعوية والسياسية.

الخط الثالث

يعتبر الفصل الثاني من كتاب الحمداوي من أهم الفصول التي أبرزت خصوصية المدرسة الحركية بالمغرب، كونها أوضحت معالم الخط الإصلاحي المسمى بالخيار الثالث الوسط بين الخيار الجدري القائم على قلب الأوضاع السياسية، وبين خط الارتهان إلى الاستقرار لتبرير صعوبة المطالبة بالإصلاحات وكلفتها، إذ يوضح في هذا الفصل خصوصية خيار الإصلاح التراكمي، الذي وصفه الحمداوي بكونه أصعب خيار، كونه ينطلق من معادلة الإصلاح في إطار الاستقرار، باحترام مبدأ المرحلية والتدرج، وبمراعاة شروط الواقع السياسي وقواعده وأطره الدستورية والقانونية، وباشتباك يومي مع التطورات، واستحضار دائم لجدل التدافع بين الإصلاح والفساد، ونقاط التقدم والتراجع في هذه المعادلة، وما يفرضه من استحضار الجاهزية الدائمة والتعبئة المستمرة لأنصار المشروع وعاطفيه، وما يتطلبه أيضا من توسيع جبهات الإسناد للإصلاح، وتفويت الفرصة على مناهضيه.  ويدخل الحمداوي في مقارنة بين الخيار الإصلاحي التراكمي والخيار الجدري، منبها على علاقات الاتصال والانفصال بينهما، مقدما بهذا الخصوص سياق الحراك الديمقراطي الذي عرفه المغرب مع حركة 20 فبراير كتحد لاختبار صوابية الاختيارين، ويميز بين مخرجات الخيار الراديكالي المربكة، ومخرجات الخيار الإصلاحي التراكمي الواقعية، التي أنقذت المغرب من المصير المؤلم الذي واجهته بعض دول الربيع العربي قبل أن تجد طريقها إلى ترتيب وضعها الانتقالي أو تدخل في المجهول كما هو شأن بعض التجارب إلى الآن.

خمسة مبادئ موجهة لتجربة الحركة الإسلامية المغربية

ويركز الحمداوي في سياق استعراضه لأهم خصوصيات الحركة الإسلامية المغربية على خمسة موجهات لكسبها، هي: إعمال مبدأ التدرج، والحكمة والموعظة الحسنة، والتدافع السلمي، والمشاركة الإيجابية، والتعاون في الخير مع الغير. ويقدم في هذا السياق بعض التحديات العصيبة التي واجهتها الحركة في مسارها، وكيف تمكنت بفعل إعمالها لهذه المبادئ الموجهة من تجاوزها وتحويلها إلى نقاط قوة تضاف إلى رصيدها، ومن ذلك، الصعوبات الكبيرة التي واجهتها في طريق ترسيخ مسار الوحدة بين التنظيمين، وكيف ساهمت حكمة  بعض القيادات من الطرفين في تجاوزها، وكذلك تحدي الأحداث الإرهابية التي ضربت الدار البيضاء  في 16 ماي 2003، وما ترتب عن تصريحات الدكتور أحمد الريسوني رئيس الحركة حول إمارة المؤمنين من تجييش إعلامي وسياسي ضد الحركة، انتهى بتقديم الريسوني لاستقالته، وتدبير الحركة لهذه المرحلة العصيبة، بكثير من الحكمة والصبر حتى تم تجاوزها، ومن ذلك أيضا تحدي الإعلان عن مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني، ومباردة الحركة للانخراط فيه رغم وضوح مقاصده ، تفعيلا لمبدأ التعاون في الخير مع الغير،  ثم تحدي الربيع العربي، الذي واجهته الحركة بمنطق متمايز عن حركة الشارع، وذلك بإعمال منطق الإصلاح في ظل الاستقرار.

 

لا يخلو كتاب الحمداوي من مساجلات حركية مع بعض الأطروحات التي تقاطعت معها الحركة في الطريق، ومن ذلك فكرة الفطرية في العمل الإسلامي

ويسلط الحمداوي الضوء أكثر على العمود الفقري في الخط الثالث، والمتمثل في خيار المشاركة، مبينا مزاياه وفوائده، ومكاسبه الكثيرة على الحركة الإسلامية. وقد شحذ الحمداوي بهذا الخصوص عددا من الحجج والاعتبارات ليبين أفضلية هذا الخيار على ما سواه من الخيارات المطروحة، كونه مشروعا تنافسيا تدافعيا لا يبقي الكرسي فارغا لتملأه الخيارات الأخرى السائدة، وكونه يتميز بقوة الطرح والجاهزية، والتجديد والتجاوب المتجدد مع الواقع وتحدياته، والصمود في مدافعة المشاريع المناهضة للإصلاح.

ويدخل الحمداوي في مساجلات خفيفة مع بعض التوصيفات التي يوصم بها الخيار الإصلاحي التراكمي، محاولا وضعها في سياق ثنائيات فكرية، من قبيل الاحتواء والإقصاء، والانغلاق والانفتاح، مبرزا بهذا الخصوص أن اختيار موقع مختلف ومتمايز عن الخيار الإصلاحي بدعوى رفض الاحتواء والذوبان، ينتهي بالضرورة إلى وضع الحركة الإسلامية خارج مربع الفعل، وبالتالي تبرير انسحابها وإقصائها من الواقع  السياسي، كما أن  الآفات التي يهتز على إثرها الجسم الحركي بسبب فعل الانفتاح ودخول نخب جديدة للحركة الإسلامية تطرح ضرورة التفكير في صيغ للاستيعاب بدل الارتهان لمنطق الانغلاق والطائفة.
 
وبقدر تأكيده على قوة الخيار الإصلاحي التراكمي، فإنه ينبه على مخاطر وقوع الحركة الإسلامية في مصيدة الاستنزاف في معارك جانبية تلهيها عن أولوياتها وبوصلتها الاستراتيجية، كما أنه ينبه على مخاطر استدراجها لمعارك لم تخترها بنفسها، ولم تحددها خياراتها الأصلية. 

المشروع الرسالي من وحدة التنظيم إلى وحدة المشروع

يعيد المهندس محمد الحمداوي صياغة ما سبق أن بسطه في كتابه السابق" الرسالية في العمل الإسلامي" موضحا المراجعات الكبرى التي حصلت للحركة الإسلامية في الشق التنظيمي، والتي ترتبط في الجوهر بالتحول الفكري الذي دشنته الحركة الإسلامية لوظيفة التنظيم وأدواره المجتمعية.
فعلى طول الفصل الثالث من كتابه، يبسط الحمداوي فكرة هذه المراجعات، كون الحركة الإسلامية في المغرب، اختارت أن تراجع مفهوم وحدة التنظيم الماسك بكل مجالات العمل التربوية والثقافية والفكرية والتنظيمية والنقابية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وأن تتبنى، بدلا عن ذلك، فكرة وحدة المشروع الرسالي، الذي تجتمع على تحقيقه عدد من الهيئات التي تقدم مساهمات متعددة، كل بحسب تخصصه ووظيفته ومجاله ونوع مساهمته، إذ اختارت الحركة أن تؤسس لفكرة التخصصات، التي ترعاها في باكورة نشأتها قبل أن يرشد عودها وتستقل بعملها وظائفها عن الحركة،  كما اختارت أن تعدل وظائفها بما يجعلها متمايزة عن بقية التخصصات، متكاملة معها في خدمة أهداف المشروع الرسالي، فتكتفي بوظيفة التربية والدعوة والتكوين، مع حصر وظيفة التدافع المجتمعي في ما له علاقة بالهوية والقيم التي تعتبر مجالاتها الحيوية، ووضع مسافة عن بقية التخصصات وذلك بفكرة التمايز بين الهيئات والوظائف والخطاب وكذلك القيادات وإن بنحو متدرج.

مساجلات حركية

لا يخلو كتاب الحمداوي من مساجلات حركية مع بعض الأطروحات التي تقاطعت معها الحركة في  الطريق، ومن ذلك فكرة الفطرية في العمل الإسلامي وما تعنيه من طرح فكرة ما بعد التنظيم أو تجاوز التنظيم، والتي أسس لها المرحوم الدكتور فريد الأنصاري (أحد قيادات الحركة التوحيد والإصلاح)، مستلهما لعناصرها من تجربة "الخدمة " في تركيا، إذ حاول الحمداوي في هذا السياق أن يحشد كل حججه لإبطال نظرية الفطرية، مؤكدا بهذا الخصوص أن فكرة ما بعد التنظيم، أو تجاوز التنظيم، ليست إلا غطاء لتنظيم آخر يتبلور على أنقاض التنظيم الذي تم إبطاله  بفكرة الفطرية، وان  الفطرية تحمل في طياتها كيانات موازية هي التنظيم بعينه. كما أنه يدخل في سجالات مع من يستند إلى شمولية الإسلام لتبرير شمولية التنظيم، مبينا بهذا الخصوص عدم وجود جدلية حتمية بين شمولية الدين وشمولية التنظيمات الداعية إليه، مركزا على التحديات التي تواجه الحركة الإسلامية التي تتبنى خيار التنظيم الشمولي والمآزق التي تقع فيها.

هموم تنظيمية وتربوية


قريبا من الكتابات التي كان يخطها الداعية فتحي يكن في رصد بعض الظواهر والانزياحات التي تقع داخل الجسم التنظيمي للحركة، وفي رؤيتها وكسبها التربوي يحاول الحمداوي أن يستحضر بعض الهموم من وحي تجربته ، ويؤطرها بنقاش فكري، فيعرض لفكرة الانضباط التنظيمي، أو فكرة الانتماء وشروطه داخل التنظيم، ومدى مسايرته للتحولات التي عرفتها الحركة الإسلامية والأجيال الجديدة التي صارت تقبل عليها، مبرزا الحاجة لنقاش فكري وتنظيمي ينتهي بمراجعة الأنظمة التنظيمية والمسطرية المنظمة لعملية الانتماء التنظيمي لاستيعاب مختلف الظواهر التي تصاحب عملية الانتماء والانضباط التنظيمي. كما يعرض لظاهرة تعدد الأمزجة داخل التنظيم، وكيفية التعامل معها، وشروط استيعابها والتخفيف حدتها، كما يعرض لظاهرة كثرة المنسحبين أو المغادرين للتنظيم، وسبل مواجهة هذه الظاهرة، وأولويات الإنصات والتواصل لفهمها وتوفير شروط التعاطي الصحيح معها، كما نبه الحمداوي على بعض الآفات التي أصابت البعد التربوي في مشروع الحركة الإسلامية، وضرورة التحلي بالواقعية في معالجتها.

بقدر تأكيده على قوة الخيار الإصلاحي التراكمي، فإنه ينبه على مخاطر وقوع الحركة الإسلامية في مصيدة الاستنزاف في معارك جانبية

خصص المهندس محمد الحمداوي فصله الخامس من كتابه لإبراز كسب الحركة الإسلامية المغربية في إنتاج صيغة للعلاقة مع الحركة والحزب، تتأسس على منطق التمايز لا الوصل ولا الفصل. فبعد المراجعة الجوهرية التي تمت على مستوى أهداف الحركة الإسلامية من نقد مفهوم إقامة الدولة الإسلامية أو مفهوم إقامة الخلافة الإسلامية أو استعادتها إلى الإسهام في إقامة الدين ، وما تلا ذلك من مراجعات تنظيمية عميقة، مست هوية التنظيم وطبيعته ووظائفه، يستعرض الحمداوي تجارب الإسلاميين المختلفة في تأطير العلاقة بين الحزب والحركة، ويتتبع الآثار الخطيرة التي نتجت عنها، والمآزق التي تورطت فيها عدد من الحركات الإسلامية، ويمهد بذلك لبسط خصوصية التجربة الحركية المغربية في تأطير هذه العلاقة على منطق التمايز في الوظائف والهيئات والقيادات والخطاب أيضا، مع الاحتفاظ بوضع الشراكة الاستراتيجية بينهما.

مركزية الديمقراطية الداخلية

 

يختم المهندس محمد الحمداوي كتابه بفصل نفيس "الفصل السادس" عن أهمية الديمقراطية الداخلية في تجربة الحركة الإسلامية المغربية، إذ يستعرض في هذا الفصل تسعة مطالب، كلها تندرج ضمن التأصيل لفائدة الشورى وبيان أهيمتها ومقاصدها، والانتصار لفكرة شرعية المؤسسات بدل شرعية المؤسسين، ونقد المشيخة، والتذكير بالمبادئ الثلاثة التي أرست تجربة الوحدة، وضمنها قضية القرار الشورى، والمسؤولية بالانتخاب، وتفنيد الحجج التي تسعى لاستعادة فكرة المشيخة، ومنها الشروط التعجيزية في المسؤولية، أو حاجة التنظيم لرجل المرحلة، أو إعجاب المريدين، مؤكدا في سياق مساجلاته مع هذه الأفكار مركزية الديمقراطية الداخلية في تجربة الحركة، والتلازم الحتمي بين  توطينها واستمرار وهجها وتقدمها وإشعاعها.

 

إقرأ أيضا: من تجربة الإسلاميين في المغرب.. من الدعوي إلى السياسي 1من2