قضايا وآراء

الاقتصاد المعرفي وثروات العقول المهدرة (1-3)

1300x600
يعرف الاقتصاد المعرفي على أنه ذاك الاقتصاد الذي تكون فيه القطاعات المنتجة والمستخدمة، والتي تدير المعلومات والمعارف، ركيزة أساسية، في مقابل القطاعات التقليدية التي تستخدم المواد الخام والطاقة في توليد الناتج.

ومما لا شك فيه، أن تطور هذا النوع الحيوي من الاقتصاد له الأثر الكبير على التغيرات والتحولات العالمية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية القادمة، وفي تغير مصطلح الدولة المتقدمة أو الدولة العظمي؛ من تلك التي تمتلك أسلحة وموارد اقتصادية تقليدية، إلى التي تستحوذ على أسلحة وموارد اقتصادية معتمدة على التقنيات المعلوماتية والمعرفة والابتكار.

وادي السيليكون أحدث ثورة في سياسات التنمية

ويعد وادي السيليكون في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، ذلك المارد التقني الذي وُلد عملاقا من رحم ستانفورد، المؤسسة العلمية الأعرق، ممهدا لأهم الثورات الحديثة في سياسات التنمية المحلية، من خلال مجمعات الأعمال أو حاضنات الشركات الناشئة القائمة على ربط البحوث بالتطبيق، وربط العلم باحتياجات الصناعة الحقيقية، كذلك مهد لتطوير الآلاف من براءات الاختراع التي تحتكرها الولايات المتحدة، وتعطيها الحق في السبق والريادة التقنية وأسواق استهلاكها، والملايين من العقول الذهبية المهاجرة.

ويكفي أن ولاية كاليفورنيا وحدها تجاوزت فرنسا لتصبح سادس أكبر اقتصاد عالمي، حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي للولاية ناهز 2.5 تريليون دولار العام، بمساهمة كبيرة لوادي السيلكون. ليس هذا فحسب، فهناك نماذج كثيرة شبيهة لوادي السيلكون مع اختلاف الأوطان، مثل مجمع الوسائط المتعددة، بمدينة هلفرسم (Hilversum) في هولندا، وحديقة التقنية (Technologiepark) بمدينة هيدلبرج (Heidelberg) في ألمانيا، ومستنقع السيليكون (Fen Silicon) للتقنية الحيوية وتقنية الحاسوب بمدينة كامبردج في المملكة المتحدة، ومدينة كيستا للعلوم (City Science Kista) في السويد، وحديقة هسنشو للعلوم (Park Science Hsinchu) في تايوان وكذلك سنغافورة، وماليزيا، والهند، وتركيا، والكيان الصهيوني.

أبرز النماذج على نجاح الاقتصاد المعرفي

تعتبر تجربة سنغافورة العملاقة الملهمة أحد أبرز التجارب الناجحة في الاقتصاد المعرفي، والتي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي ، وتحولت فيها القيادة الماليزية إلى الصناعات الابتكارية التي تولد فرص العمل لطاقاتها البشرية، وركزت على بناء بنية تحتية قوية، فانتقلت ماليزيا من مفهوم "التصنيع من أجل التصدير" إلى "اقتصاد يعتمد على الاستثمار"، ثم أخيرا "الاقتصاد المعتمد على الابتكار".

لقد استطاعت سنغافورة بمساحتها المحدودة وقوى عاملة لا تتعدى ثلاثة ملايين نسمة، تحقيق ناتج محلي إجمالي يتجاوز 350 مليار دولار أمريكي سنويا، أي أعلى من الناتج المحلي الإجمالي لما يزيد عن 70 في المئة من دول العالم.

وتأتي تجربة الهند الواعدة كثاني أكبر مصدر للبرمجيات بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ويتم فيها تطوير ما يزيد على 40 في المئة من البرمجيات المستخدمة في الهواتف المحمولة، كما تعتبر صناعة البرمجيات أحد أهم القطاعات في الاقتصاد الهندي، وتتخطى عائدات هذا القطاع فقط 100 مليار دولار.

ويدخل الكيان الصهيوني ليحتل المركز الثاني بعد وادي السليكون في كاليفورنيا؛ كأفضل مكان للأعمال التجارية الناشئة، حيث يتم إنشاء 200 شركة ناشئة سنويا. ويأتي في هذا السياق تصريح زيفمان، رئيس معهد "فيتسمان"، حول مسيرة تطور صناعة المنتجات عالية التقنية في إسرائيل، وإسهام معهده فقط بإيرادات وأرباح بقيمة ثلاثين مليار دولار لعشرات الشركات العالمية بمجالات الطب والصحة والطاقة والهواتف المحمولة. وكذلك قفزت صادرات التكنولوجيا المتطورة، وفي مقدمتها البرمجيات، لتحقق زيادة أكثر من 30 في المئة في 2017، لتصل إلى ما يزيد عن 20 مليار دولار.
ولم يقف التنين الصيني متفرجا، فعزز قدراته من حيث زيادة الإنفاق على التنمية البشرية والتدريب المتخصص والبحوث التطبيقية، وخاصة في ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الأمنية وتحليل البيانات الضخمة، والتي كانت له بمثابة المنصة الرئيسية للانطلاق في الصراع مع الكبار على الريادة، وجني الأرباح بالمليارات من وراء براءات اختراع وابتكارات أبنائها. فصادرات الصين من البرمجيات تعدت 38 مليار دولار عام 2017، بزيادة سنوية تصل إلى 10 في المئة، منها 18.9 مليار دولار للولايات المتحدة وأوروبا فقط.

ماليزيا وتركيا في المقدمة وتضاؤل الاستثمارات في الدول العربية

وتبرز ماليزيا وإيران وتركيا في مقدمة الدول الإسلامية في التحرك بقوة والعناية بعقولها المبتكرة، والاهتمام بجودة التعليم والبحث العلمي، لينعكس ذلك على أن تشكل صادراتها من الاقتصاد المعرفي نسبة محورية من الصادرات القومية لها، والاعتماد على تقنيات مطورة بعقول أبنائها.

أما منطقتنا العربية، فتواجه تحديات كبرى في هذا المجال النوعي والحيوي، وفي قدراتها على التواجد في السباق الدولي المحموم. فما زالت معظم هذه الدول تمشي على استحياء في مجال الاستثمارات وتهيئة بناء البنية الأساسية التي يحتاجها هذا النوع من الاقتصاد، وفقدان التخطيط الاستراتيجي السليم للتحول إلى الاقتصاد الصناعي المعتمد على المعرفة، كذلك إهدار الموارد البشرية من الشباب. وخلاصة العقول العربية إما مهمشة أو مهاجرة؛ بحثا عن أبسط حقوق الحياة.

ولم تكن مصر صاحبة الريادة العربية أحسن حالا، فجاءت في مركز متدن جدا، وصل إلى 95 من 146 في مؤشر الاقتصاد المعرفي والمؤشرات الفرعية له، و110 في مؤشر التنافسية العالمية، و115 من 139 في مؤشر هجرة العقول، لتتذيل ترتيب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وليس هذا وحسب، بل جاءت نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التي تخصصها الإدارة المصرية بما لا يتعدي 0.2 في المئة، مقارنة بما يقارب خمسة في المئة يستثمرها الكيان الصهيوني في هذا المجال، كما جاء في تقرير التنافسية العالمية (المنتدى الاقتصادي العالمي).

فالفجوة بيننا وبينهم ليست وليدة المصادفة، بل هي تراكمية مستمرة مع استمرار فشل الحكومات المصرية المتتالية منذ الخمسينيات، مع زيادة التخبط وانعدام التخطيط خلال المرحلة الحالية، فانهارت الركائز الأساسية للاقتصاد المعرفي كنتاج طبيعي في دولة العسكر المصرية، وانهار التعليم (الركيزة الأساسية للتنافسية الاقتصادية)، وسيطر على قطاع الاتصالات والمعلومات لواءات متقاعدون أو رجال أعمال محتكرون، وأُهدرت الموارد والفرص الحقيقية للنهوض بهذا القطاع الهام، فلم تبق حرية لتداول المعلومات والمعرفة، وهربت رؤوس الأموال الوطنية والمستثمرون والشركات صاحبة الاستثمار الحقيقي خوفا من الأسوأ القادم. والأهم من ذلك كله، ضُيعت العقول الذهبية المبتكرة الماهرة بين قتيل ومعتقل أو هارب لأحضان الغرب الرابح، ولم يبق في مصر إلا الكثير من البيادات الثقيلة؛ تعلوها عقول فارغة وألسنة إعلامية مضللة، والقليل من المتخصصين الحالمين باستعادة مصر لمكانتها قبل فوات الأوان.