كتاب عربي 21

"سيرشينج"

1300x600

(1)
حسنا فعلت مجلة "تايم" في اختيارها لشخصية العام، لكن الفعلة مثيرة للتأمل بعمق، لأن فريق "تايم" لم يختر شخصية بل اختار "قضية"، ثم ربطها بعدد من الأشخاص وصفتهم المجلة بأنهم "حراس الحقيقة".

لكن المجلة الأمريكية الشهيرة أوحت لنا في عنوان الغلاف أنها لا تركز على أسماء الصحفيين الضحايا، بل تركز على مصائرهم كمحاربين تعرضون لويلات الطغاة في جولات "الحرب ضد الحقيقة"، لهذا طبعت المجلة أعدادها (ربما للمرة الأولى) بأغلفة متعددة تحمل صوراً مختلفة لصحفيين تراوحت مصائرهم بين القتل الشنيع كجمال خاشقجي، وبين آخرين تعرضوا للسجن، كمراسلي رويترز في ميانمار، أو يتعرضون للقمع والتضييق، مثل الصحفية الفلبينية المعارضة ماريا ريسا، أو تعرضوا للقتل كمحرري صحيفة "كابيتال جازيت" الأمريكية.

(2)
اختيارات "تايم" تبدو ناقصة وغير وافية وتثير الخلاف، إذا نظرنا إليها كجوائز شخصية، لكنها تبدو ذات دلالات عظيمة إذا نظرنا إليها باعتبارها "اختصارات رمزية" تشير إلى اتجاهات وقضايا، وتلقي بالضوء الكاشف على الصراع بين شياطين الحجب والظلام وفرسان "التنوير" الساعين من أجل نقل الحقائق البشعة التي تحدث وراء جدران القمع، وخلف أسوار العزلة العنصرية، وداخل محارق الاضطهاد الديني والعرقي، وكذلك في مقار المخابرات والقنصليات وقصور الحكم.

(3)
راجع قراءة السطور السابقة بتمعن أكثر، ثم اسأل نفسك: هل تعرف صحفياً يدعى "كيان سوي أوو"، أو "ماريا ريسا"، أو محمود حسين، أم تعرف جمال خاشقجي وفقط؟

لا تشغل نفسك بإجابتك الآن، فكر معي في أن هذه الأسماء وآلاف غيرهم يدفعون ثمن دخول "الغرفة 40" التي تخفي فيها العصابة الثروات المسروقة من الناس، وتعذب من يعترض منهم وتقطع أوصالهم بلا رحمة. وهذا "العقاب" ليس جديدا، فقد ورد في الأساطير أن بروميثيوس انحاز للبشر، وقرر أن ينقل لهم بعض المعلومات والمعارف التي تحتكرها آلهة الأوليمب، فدخل معبد النار المقدسة وأخذ قبسا من نار المعرفة وقدمه للبشر ليتعلموا فنون الرعي والزراعة وإدارة شؤون حياتهم، فعاقبته الآلهة المحتكرة المتجبرة بالمناشير والتعذيب السرمدي في السجون العربية.

(4)
القصة إذن قديمة جداً، والصراع دموي بين من يحتكرون كل شيء لأنفسهم وبين بشر خلقهم الله مجبولين على الحرية والبحث والحفاظ على حياتهم من التهلكة، لكن لماذا ينتهي الصراع بنصرٍ خسيس لصالح الجبابرة، وفي كل مرة يدفع بروميثيوس وسنودن وجمال خاشقجي الثمن؟ وهل تستطيع "تايم" وأخواتها تغيير نتيجة الصراع لصالح "حراس الحقيقة"؟

(5)
لن أتطوع بإجابة سهلة قوامها الكلمات التي تعتمد على التمني ومواعظ الضعفاء، سأقدم إجابة موثقة بالصوت والصورة لواحد من المنتصرين في معركة البحث عن الحقيقة، وهي إجابة تقدم لنا "شخصية العام" بطريقة لا تتعارض مع الأسماء التي اختارتها "تايم"، بل ولا تتعارض مع نظرتك لنفسك بأنك أيضا فارس وحارس من "حراس الحقيقة"، والدليل المصور عبارة عن فيلم "سيرشينج" للمخرج الشاب أنيش شاجانتي (27 سنة)، وهو مخرج أمريكي من أصل آسيوي (الإشارة مقصودة للحديث عن سيولة الهوية في المجتمعات الحديثة)، قدم فيلمه عن رحلة بحث أب (آسيوي أيضا) عن ابنته المراهقة المفقودة بعد اختفائها فجأة، ولما تسأله جهات التحقيق عن معلومات عن الحياة الخاصة لابنته وأصدقائها وعاداتها، يكتشف أنه لا يعرف ما يكفي، وأن ضمان حياة ابنته يلزمه بمعرفة الكثير مما يجهله عنها، فيلجأ إلى جهاز الكومبيوتر الخاص بها ويدخل إلى حساباتها في مواقع السوشيال ميديا.

 

ويتحول الفيلم إلى رحلة بحث أسطورية في غابة وكهوف وسراديب، لكنها رحلة حديثة في الشبكة العنكبويتة الهائلة. وفي رحلة البحث عن الحقيقة تتوالد الألغاز، وتتبدل المشاعر والمعلومات من خطوة إلى الأخرى، وتتكشف عوالم متداخلة من الحب والكراهية، الدعم والغيرة، الصدق والكذب، التعاون والتلفيق.. ويحضر الإعلام ونوافذ الاتصالات، بحيث لا نرى الناس عادة إلا كصورة في إطار التطبيقات التكنولوجية وعدسات الكاميرات، وبمساعدة أدوات العالم الجديد وحدها ينتصر الأب المحب وتكشف لنا رحلة بحثه المخلصة أن المحققة التي تساعده على فك لغز اختفاء ابنته، هي المجرمة التي تسعى للتضليل، وتتعمد طمس الحقيقة وليس كشفها لأنها تعرف القاتل وتطوعت خصيصا لكي تحميه.

(6)
يتوصل الأب الأعزل إلى حقيقة ما حدث لابنته بأمرين: الأول داخل نفسه، وهو إخلاصه في البحث عنها ورغبته في استكمال الحياة معاً بدون حجب وإخفاء، حيث يبدأ الفيلم بحذف سطر من "الشات" بينهما؛ يذكر فيه اسم أمها التي توفيت بالسرطان حتى لا يستعيد ذكريات مؤلمة للابنة، كأنه يريد إخفاء حقيقة كانت مؤثرة في حياتها، وفي مشهد النهاية يضيف السطر الذي حذفه من قبل، ويعيد الأم للحياة المشتركة بينه وبين ابنته.

 

أما الأمر الثاني، فهو مقدار فهمنا وتعاملنا مع التقنيات الحديثة التي لم تعد "واقعاً افتراضيا"، بل صارت هي الواقع كله، أو لنقل بتواضع وتحفظ أنها اندمجت مع الواقع اندماجا مذهلا، ضمن تفاعلات حالة السيولة التي يمر بها العالم، والتي نتحدث عنها كثيرا من غير أن ندرك تأثيراتها في حياتنا. وأعتقد أن قضية ريجيني أو قضية جمال خاشقجي، وكذلك قضايا المختفين قسريا والمعذبين في السجون، أخذت نصيبها من الاهتمام بقدر الحجم الذي تم فيه توظيف هذه الأدوات التكنولوجية في الاتجاه الصحيح.

(7)
من حيث المظهر، يعرض فيلم "بحث" الحياة كلها من خلال نوافذ الصفحات المنبثقة على برامج الشات وصفحات التعارف الاجتماعي ومحركات البحث التي تربط خيوط العالم في شبكة عجيبة ومتصلة. فالذي يتم تعذيبه أمام كاميرا تؤدي إلى شاشة عرض، غير الذي يتم تعذيبه في زنازين الزوال والهباء، وحجم الضوء الإعلامي هو الذي يحدد حضور شخص أو قضية في رأس العالم وذاكرته.

فقد يكون هناك من تعرض لمصائر أكثر بشاعة من خاشقجي وريجيني ومجدي مكين، لكن كل شخص يحصل على العائد وتكبر قضيته بحجم القوة الإعلامية التي تضخ صورته في شرايين الذاكرة الإنسانية الموصولة بالشاشات. ولكي نتجنب التضليل والتزييف والإدعاءات الكاذبة، علينا جميعا أن نهتم بالبحث، وأن نتسلح بالإخلاص والمحبة والرغبة في العيش مع بعضنا البعض بلا إقصاء ولا إخفاء، حتى لو كان الدافع نبيلاً لتجنب ذكريات ومعلومات قد نراها من وجهة نظرنا مؤلمة، بينما الآخر يحب أن يتفاعل معها ويتحدث فيها، وهذا هو الدرس المهم الذي يقدمه بجاذبية وإثارة فيلم "بحث" الذي ينتهي (لأول مرة في تاريخ السينما) بكلمة "shutdown"، وهي كلمة بالتأكيد غير كلمة "النهاية" التي ارتبطت بالأفلام؛ لأن "شات داون" لا تعني النهاية، بل تعني إغلاق مؤقت، مع أمل ببداية جديدة.. (start).

(8)
لا أريد أن أقول شيئا في الفقرة الثامنة، لكنها رقم 8 بالنسبة لي كإنسان هو يوم الـ"start".. يوم بداية الفعل البشري، فتسلحوا في أفعالكم بالبحث وبالمحبة وبالإخلاص وبالمشاركة.. #share

 

tamahi@hotmail.com