كتب

"مونتغومري وات".. المستشرق البريطاني غير المنحاز (1من3)

كان محايدا في عرضه للسيرة النبوية ومنصفا

الكتاب: مونتغومري وات والدراسات الإسلامية 
الكاتب: د.هيثم مزاحم
الناشر: جداول للنشر والترجمة و التوزيع، بيروت لبنان ،الطبعة الأولى، تشرين الثاني/نوفمبر 2018

على الرغم من أنّ معظم الدارسين الأكاديميين الغربيين اتسمت دراساتهم عن الإسلام، وعن شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بخدمة التبشير والاستعمار، حيث تشكلت صورة النبي محمد في الوعي الغربي المسيحي، ومن ثم في المخيال الاستشراقي من مصدرين: الأول هو الروايات البيزنطية عن الإسلام والنبي وما كتبه رجال الدين المسيحيون المؤدلجون، من مادة مزورة ومشوهة، بدافع الكراهية والانتقام، أما المصدر الثاني فكان التواصل الشخصي مع المسلمين أثناء الحروب الصليبية، فإنّ مونتغومري وات  رجل الدين الإنغليكاني من اسكتلندا (1909 ـ 2006) تخصص في الإسلام، وألّف كتابًا عن سيرة النبي في جزئين، "محمد في مكةMohammad At Mecca " سنة1953، و"محمد في المدينة Medina   Mohammad At " سنة 1960، حيث اتسمت دراسته بالموضوعية والشمولية والعمق، ويعتبر أهم كتاب عن السيرة النبوية في الغرب والشرق على حدِّ سواء.

ويعتبر عمل مونتغومري الاستشراقي بعيدَا عن الأحكام النمطية المسبقة التي عرفها الاستشراق الغربي، والمناهج التاريخية العادية، فدشن منهجًا جديدًا في دراسة سيرة النبي محمد والإسلام، هوالمنهج الاقتصادي ـ الاجتماعي، حتى إنّ كثيرين ظنّوه في البداية من ذوي الاتجاه اليساري، الذي يزعم أتباعه أن "التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية" هي التي تنتج الأشخاص والأديان.

 

تشكلت صورة النبي محمد في الوعي الغربي المسيحي، ومن ثم في المخيال الاستشراقي من مصدرين: الأول هو الروايات البيزنطية عن الإسلام والنبي وما كتبه رجال الدين المسيحيون المؤدلجون، أما المصدر الثاني فكان التواصل الشخصي مع المسلمين أثناء الحروب الصليبية


وكانت صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الوعي الغربي في القرون الوسطى تتلخص بأنه قائد بدوي عربي، يتمتع بصفات البداوة من غزو واستيلاء على أراضي غيره، وما ادعاؤه النبوة إلا لتبرير سطوته وإشباع نزواته النفسية و الجنسية، أو أنه مهرطق ارتد عن المسيحية ليؤسس دينا اسمه الإسلام (حسب ما جاء في مقالة آرثر جفري، "بحثًا عن محمد التاريخي"، ترجمة مالك مسلماني، والمنشورة في موقع muhammadanism).

لقد بدأت التبدلات الجوهرية على تصور الغرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم مع سيطرة المناهج النقدية والتاريخية والفيلولوجية في أوروبا. وبدا ذلك جليًا في كتاب وليم موير عن "حياة محمد" بين سنتي 1857 و1861، ومن ثم دراسة تيودور نولكده لتاريخ القرآن 1860. وبعد ذلك كُتب كثير من الدراسات عن سيرة النبي محمد وعن القرآن بينها كتاب كانون سل، "حياة محمد"، وأعمال آرثر جفري عن القرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بين سنتي 1937 و1952. وامتدت هذه المرحلة إلى أن ظهر المستشرق البريطاني وليام مونتغومري وات على السيرة النبوية في جزأين: "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة".

 

إقرأ أيضا: انهيار مزاعم الاستشراق حول تحريف القرآن

يعد كتاب الدكتور هيثم مزاحم: "مونتغومري وات والدراسات الإسلامية"، عملاً بحثيًا كبيرًا عن آخر المستشرقين الكلاسيكيين، الذي يعتبر منصفًا للإسلام، ومتعاطفًا مع نبيّه محمد إلى حدِّ كبيرِ. ويقع هذا الكتاب الذي هو عبارة عن رسالة لنيل شهادة الدكتوراه التي أشرف عليها الدكتور رضوان السيد، في 333 صفحة من القطع الكبير، ويتكون من مقدمة واثني عشر فصلا وخاتمة.

وقد هدف الباحث هيثم مزاحم من خلال القيام بهذه الدراسة التاريخية المعمقة عن المستشرق الأسكتلندي، والمفكر واللاهوتي العميق، مونتغومري وات، من دون أن يشكل اعتقاده باللاهوت المسيحي عائقًا معرفيًا في فهم الإسلام وفي تقبله واعتقاده بصدق النبي محمد وصحة الوحي القرآني، إلى تحقيق عددِ من الأهداف:


1 ـ دراسة ظاهرة المستشرق مونتغومري وات وتأثيرها في الدراسات الاستشراقية والغربية عن الإسلام، وفي الحوار الإسلامي ـ المسيحي، خصوصًا أن وات من اللاهوتيين البروتستانت الذين يقبلون نبوة محمد، ولا يرفضون إمكانية نزول وحي عليه على غرار أنبياء العهد القديم.
 
2 ـ عرض أهم تمايزات وات التي قدمها في سيرة النبي، أوالاتهامات التي فندها عن النبي محمد و التي أثارها من قبله الكثير من المستشرقين، وكذلك الشبهات التي أثارها وات في بعض المسائل من سيرة النبي.

 

إقرأ أيضا: غربيون ومستشرقون درسوا في الأزهر

3 ـ دراسة واقع الاستشراق الحالي الحديث و اتجاهاته ومآلاته في ظل تراجع الاستشراق الكلاسيكي، وهجمة الاستشراق التصحيحي Revisionismعلى الإسلام والقرآن والنبي محمد وعلى الاستشراق التقليدي.

4 ـ التعريف بأهمية الاستشراق التقليدي عموما، والمستشرق وات خصوصا، في الدراسات الإسلامية من نشر وتحقيق بعض الكتب وترجمتها الى اللغات الغربية، وتغيير الصورة النمطية الغربية عن الإسلام والنبي محمد التي سادت منذ القرون الوسطى، وحتى بدايات القرن العشرين، والتي عادت لتسود ساحةالدراسات الغربية عن الإسلام والنبي محمد والقرآن في الاستشراق الجديد منذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين .

5 ـ تقييم ونقد التطرف والغلو الإسلاميين و العربيين في نقد الاستشراق والمستشرقين وربطهم دومًا بغايات تبشيرية واستعماراتيةومؤامراتية من خلال إظهار صورة لمستشرق بريطاني ولا هوتي مسيحي، أنصف القرآن والنبي والإسلام، مما يدعوه لإنصافه وإنصاف أمثاله من شخصيات الاستشراق الموضوعيين والعلميين.

 حول مفهوم الاستشراق

يوضح الباحث هيثم مزاحم بشكل مكثف مصطلح الاستشراق، من خلال التحديد التالي، فكلمة: "مستشرق" مشتقة من مفردة "شرق"، وتعني: "أولئك الذين يدرسون الشرق / المشرق ويصبون إليه"، أو "أولئك الذين يصبحون (مثل) الشرقيين / المشرقيين"، فكلمتا "مشرق" و"مشرقيون" (Orient / Orientals) تنحيان لأن تكون لهما دلالة معنوية أكثر من كلمتي: "الشرق" و "الشرقيين" (East / Easterns). وبالنتيجة، تحمل كلمة: "مستشرقون" معنّى أوسع مما يحمله المصطلح الغربي الحالي (Orientalists)، أي: "العلماء المتضلعون بالدراسات الشرقية". 

استُخدم مصطلح: "المستشرق" أول مرة بالإنكليزية سنة 1779م، وبالفرنسية سنة 1799م، وأصبح مصطلح "الاستشراق" (Orentalism) المعنى الأوسع "للتوجّه نحو الثقافة الشرقية" (صفحة 23 من التمهيد). 
مع بدء استخدامه في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان لمصطلح المستشرق معنى ثقافي وعلمي على حدٍّ سواء. فالمستشرقون الثقافيون، ومن ضمنهم الرسامون والكتَّاب، هم أولئك الذين يستمدون إلهامهم من الشرق. أما المستشرقون العلميون فهم المتخصصون باللغات والثقافات الشرقية، لتمييزهم عن المختصين باللغات والثقافات الكلاسيكية (اللاتينية واليونانية). 

 

كلمة: "مستشرق" مشتقة من مفردة "شرق"، وتعني: "أولئك الذين يدرسون الشرق / المشرق ويصبون إليه"، أو "أولئك الذين يصبحون (مثل) الشرقيين / المشرقيين"


وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان مصطلح "المشرق" (Orient ) يمثّل الشرق الأدنى تحديداً، ولكنه كان يتضمن ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، وعند الفرنسيين، شمالي أفريقيا أيضاً. وخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، توسع نطاق مفهوم المشرق ليشمل آسيا كلها. وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، كان الاستشراق يدل في معناه الأوسع على اتجاه ثقافي محدد في أوروبا وأمريكا الشمالية، وكان يعني في معناه الضيق دراسات شرقية تجريبية.

الدراسات العربية في أوروبا 

يستشهد الباحث هيثم مزاح في تحليله لتاريخ حركة الاستشراق بالكاتب فوك يوهان، الذي يرى أن  الاهتمام الأوروبي بالدراسات الإسلامية والعربية بدأ في القرن الحادي عشر ميلادي، إثر الحملات الصليبية على العالم الإسلامي (1096 ـ 1143م)، فقد صدرت أول ترجمة لاتينية للقرآن في العام 1143م (ترجمة روبرتوس)، وكانت تلك بداية الترجمات من اللغة العربية إلى اللاتينية واللغات الأوروبية، تهدف لخدمة الطموحات التبشيرية المسحية من جهة، ونقل التراث الإسلامي واليوناني في الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات والفلك والطب إلى أوروبا من جهة أخرى. وبدأت الدراسات الجادة للغة العربية في أوروبا، وبلغت ذروة ازدهارها في إسبانيا أيام تيار الإنسانية الإسباني المبكِّر، وقدمت الحرف المطبعي العربي في مطبعة العالم التي أسسها فيرويناند فون ميديشي، في ثمانينات القرن السادس عشر ميلادي، حيث طبع كتاب: "القانون" لابن سينا كأول كتاب بالأحرف العربية، وتتالت بعده طباعة الكتب العربية.
 
وكانت هذه الترجمة اللاتينية للقرآن ضعيفة وغير أمينة، واعتمدت لأسباب تبشيرية، ولم تنشر إلا بعد أربعة قرون، حيث بقي مضمون القرآن مجهولاً في أوروبا لقرون طويلة، إلى أن جاءت ترجمة كيتينيسيس. وقام بيبلياندر بطبع ترجمة روبرتوس بعد انقضاء أربعة قرون، ومنها خرجت أقدم أول ترجمة إيطالية للقرآن (أريفابيني في سنة 1547م) وتتالت الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى، ففي سنة 1616م ترجم القرآن إلى الألمانية عن الإيطالية، ونقل من الألمانية إلى الهولندية سنة 1614م. ولم تتوار ترجمة روبرتوس عن الأنظار إلى بعد ظهور النسخة الإيطالية التي ترجمها ماراتشي سنة 1698م والتي تميزت بالدقة والأمانة.

 

إقرأ أيضا: كيف نظر المستشرقون والغربيون إلى الحج؟

وكان للاهتمام الذي أولته حركته الإصلاح الديني في أوروبا لدراسة الكتاب المقدس لغاته الشرقية أثره الإيجابي على الدراسات العربية أيضاً، لكن الأهداف السياسية والاقتصادية الأوروبية في صراعاتها وعلاقاتها مع العالم الإسلامي، كانت العامل الأكبر في إذكاء الاهتمام باللغة العربية، حيث وضع المعجم العربي الذي لم يكتمل في القرن الثاني عشر ميلادي، والذي يعتقد أن احد الرهبان قد وضعه ليكون عوناً في عمليات التبشير.

ويستمر الباحث هيثم مزاحم، باعتماده على مرجعية كتاب "تاريخ حركة الاستشراق" للكاتب فوك يوهان ، في عملية التحقيب التاريخي للاستشراق، حيث انتزعت هولندا زمام المبادرة في الدراسات العربية مع بداية القرن السابع عشر لمدة تقارب القرنين. فقد عرف الهولنديون أهمية الاستشراق نتيجة توسع تجارة بلادهم مع الهند، ولمسوا فوائد معرفة اللغات الشرقية ومنها العربية، حيث قام توماس أربنيوس بدراسة العربية والتعمق فيها، حتى تمكن من وضع مختصر لقواعد اللغة العربية في إطار منهجي منظم سنة 1597م. وفي عام 1617م ترجم ونشر كتاب: "الجرومية والمائة عامل" للجرجاني. 

وقد حققت إنجازات أربينوس لهولندا قفزة جبارة في حقل الدراسات العربية، بحيث أثارت حسد الدول الأوروبية الأخرى، فبدأت تعمل للحاق في الركب مجدداً. وكُلِّف بعض العرب المقيمين في باريس بترجمة مؤلفات عربية وكلدانية، وترجم السفير الفرنسي في مصر أندريه دوريه القرآن إلى الفرنسية سنة 1647م. وفي روما أيضاً تواصلت العناية باللغة العربية تمشياً مع تطلعات الكنيسة، حيث نشر الراهب الفرنسيسكاني موريتيلوتوس كتابه الجامع المسمَّى: «قواعد اللغة العربية»، حيث ناقش للمرة الأولى قواعد العربية بشكل مفصل.
 
وفي إنكلترا كذلك، جرت مزاولة العربية لهدف لاهوتي بداية، حيث نشر جوهن سيلدان مقطعاً من تاريخ ابن البطريق حول منشأ الكنيسة الإسكندرانية في سنة 1642م. وتتالت بعده الترجمات للكثير من الكتب العربية على أيدي المستشرقين الإنكليز، خصوصاً المستشرق إدوارد بوكوكيوس (1604 – 1691م) والذي شغل كرسي اللغة العربية في جامعة أوكسفورد، وكاستيليوس (1606 – 1674م) الذي شغل المنصب ذاته في جامعة كامبريدج. ففي العام 1650م طبع أول كتاب بأحرف عربية في أوكسفورد وهو: «لمع من أخبار العرب» وتميز نشره بتشدد علمي فائق. وفي سنة 1655م أصدر بوكوكيوس عدة فصول من شروح «المشنا»ن (شروح التوراة) لابن ميمون بالعربية وترجمة باللاتينية. أما في ألمانيا فكان الاهتمام باللغة العربية خلال القرن السابع عشر أقل بكثيرمما عليه في هولندا وإيطاليا أو فرنسا أوإنكلترا،وكانالمهتمون من رجال اللاهوت في الغالب.