أخبار ثقافية

أبو حنيفة.. كيف نشأ الفقه الإسلامي؟

أبو جنيفة الفقه الحنفي الحنفية - تويتر
الفقه اصطلاحا يعني معرفة الأحكام الشرعية على أساس الأدلة الشرعية الموثوق بها.

وكانت هذه العملية في صدر الإسلام، عملية سهلة غير معقدة كما جرى لاحقا، إذ كانت عملية استقاء الأحكام تجري مباشرة من القرآن أو الأخبار المنقولة عن الرسول أو المنقولة عن الصحابة.

الإرهاصات الأولية

ولم تجر عملية بناء نظري للفقه إلا في مرحلة استقرار الدولة العباسية وانتهاء مرحلة الصراعات الحربية والأيديولوجية، ففي مرحلة النبي والصحابة إلى أواخر العهد الأموي، كان الفقه واقعيا فقط، أي عمليا بمعنى أن الناس كانوا يسألون عن حكم الحوادث بعد وقوعها أو يتقاضون فيها، لكن في فترة تقعيد الفقه، بدأت عملية نظرية تستند إلى افتراض الحوادث نظريا ومن ثم استنباط الحكم فيها.

بدأ الفقه أولا مع رواة الحديث، لكن مع تعقد الحياة الاجتماعية ونشوء مسائل مستحدثة لم يأت ذكرها في الأخبار المنقولة، بدأت تتشكل طبقة جديدة من الفقهاء لحل المعضلات الجديدة واستنباط الاحكام الشرعية.

ظهر في البداية تياران فقهيان: الأول في العراق يعتمد الرأي في التطورات فهم النص الديني (مدرسة الرأي)، والثاني في الحجاز ويعتمد النص فقط (مدرسة الحديث).

مدرسة أهل الرأي هي امتداد لمدرسة عمر وعبد الله بن مسعود اللذين كانا أكثر الصحابة توسعاً في الرأي فتأثر بهما علقمة النخعي أستاذ إبراهيم النخعي وخاله، وإبراهيم هو الذي تتلمذ عليه حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة.

أما مدرسة أهل الحديث، فهي امتداد لمدرسة أولئك الصحابة الذين كان يحملهم الخوف والحذر من مخالفة النصوص على الوقوف عندها أمثال: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والزبير وعبد الله بن عباس في الكثير الغالب.

ولقد شاع مذهب أهل الحديث في الحجاز لأسباب كثيرة، قد يكون من أبرزها: كثرة ما بأيديهم من الأحاديث والآثار، وقلة النوازل التي كانت تعرض لانتقال الخلافة.

أما مذهب أهل الرأي فقد شاع في العراق، وكان علماء هذا الفريق يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على مصالح راجعة للعباد وحكم شرعت لأجلها تلك الأحكام، وأن على أهل العلم البحث عن تلك الحكم والعلل الضابطة، وربط الأحكام بها، وجعلها تدور وجودا وعدما معها، فإذا عثروا على تلك العلل فربما قدموا الأقيسة القائمة عليها على بعض أنواع الأحاديث إذا عارضتها.

بداية الانفصال

استند كبار الصحابة في العصر الإسلامي الباكر في فتواهم إلى الكتاب ثم السنة، وإن أعجزهم ذلك أفتوا بالرأي وهو القياس بأوسع معانيه، دون أن يتوسعوا بالرأي كثيرا كما حصل فيما بعد.

ولما جاء الخلف وجد منهم من يقف عند الفتوى على الحديث ولا يتعداه، يفتي في كل مسألة بما يجده من ذلك، وليست هناك روابط تربط المسائل بعضا ببعض، ووجد فريق آخر يرى أن الشريعة معقولة المعنى ولها أصول يرجع إليها فكانوا لا يخالفون الأولين في العمل بالكتاب والسنة ما وجدوا إليهما سبيلا ولكنهم لاقتناعهم بمعقولية الشريعة وبنائها على أصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة كانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم فيما لم يجدوا فيه نصاً كما كان يفعل الفريق الأول.

وبدأ انفصال أهل الرأي عن أهل الحديث في القرن الهجري الأول، نتيجة قلة النصوص الدينية بالمقاييس إلى المسائل والقضايا التي لا تحصى ولا تعد، فإذا لم يعثروا على حلول لها في القرآن الكريم ولا في سيرة النبي اجتهدوا في حلها، في حين آثرت مدرسة الرأي على التزامها بالنصوص، ولم تعمل بالرأي إلا عند الضرورة القوة.

لم يكن الصراع في الفقه صراعا بين القديم والجديد، بل كان صراعا بين وجهات نظر لم تكن تعتمد نفس الأصول والمقدمات في عملية التفسير.

يكتب محمد عابد الجابري: لقد كانت الحاجة قائمة في العلوم العربية الإسلامية إلى إعادة تأسيسها منطقيا وابستيمولوجيا بعد أن تم تأسيسها عمليا من خلال تدوين العلم وتبويبه.

أبو حنيفة: فقيه أهل الرأي

هو النعمان بن ثابت المعروف بأبي حنيف من أصل فارسي، ولد في الكوفة 699 ـ 767 م.

ظهر اتجاهه العقلي في الفقه خلال الأوضاع الثقافية التي كانت سائدة في العراق آنذاك.

أول ما توجه إليه أبو حنيفة من علوم عصره هو علم الكلام، والعقائد، وأصول الدين، حتّى برع في هذا المجال، وأصبح ممن يشار إليهم بالبنان، ولم يجاوز حينها العشرين من عمره، ثم توجه إلى علم الفقه، وكان قد تتلمذ على يدي العالم الفقيه حماد بن أبي سليمان رحمه الله، ونهل من علمه الغزير حتى صار أقرب تلاميذه إليه، وقد قال حماد في أبي حنيفة: لا يجلس في صدر الحلقة بجانبي غير أبي حنيفة.

ولا يمكن فهم اعتماد أبي حنيفه على الرأي العقلي دون معرفة المناخ الديني السياسي آنذاك، فقد كان العراق ساحة لتلاقي الأفكار الدينية وشبه الدينية، فضلا عن الخلافات المذهبية السياسية.

وكان ثمة كثير من المسائل المستجدة لم يعثر لها على جواب في الكتاب والسنة النبوية، الأمر الذي يتطلب اعتماد الرأي والقياس.

وفي هذا الصدد كتب علي سامي النشار أن أبو حنيفة يعتبر الفيلسوف الأول في الإسلام، فلم يكن يستطيع أن يترك المسلمين وهم في معترك الفقر والفلسفات نهبا للقلق العقائدي.

أصول المذهب الحنفي

وضع أبو حنيفة النعمان قواعد المذهب الحنفي بقوله:

آخذ بكتـــاب الله تعــالى، فإن لـــم أجد 
فبسنة رســــول الله، فـإن لـــــم أجــد 
أخــذت بقـــول الصحـابة، آخــــذ بقـول 
من شئت منهم وأدع قــول مــن شئت 
منهم، ولا أخـرج عن قولهــم إلــى قول 
غيرهــم، فــإذا انتهـــى الأمـــر إلـــــى 
إبراهيم والشعبــــي وابـن سيريــــــن 
والحسن وعطـاء وسعيد بن المسيـــب
فقــوم اجتهـدوا، فأجتهد كمـا اجتهــدوا.

وفقا لذلك، فإن القرآن الكريم هو المصدر الأول والأعلى في مسائل الفقه عند الإمام أبي حنيفة، ثم تأتي السنة النبوية بعد الكتاب، لكن أبي حنيفة لا يجعل السنة النبوية في رتبة واحدة، بل يقدم السنة القولية على الفعلية، لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي، ويقدم السنة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما.

وبعد السنة، يأتي الإجماع، بمعنى ما أجمع عليه الصحابة، والإجماع، هو اتفاق الأئمة المجتهدين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول.

أما القياس، فالمقصود به هو إرجاع فرع إلى أصل فيه نص بحكم معين من الوجوب أو الحرمة، لوجود علة الحكم في الفرع كما هي في الأصل. 

كما اعتمد أبي حنيفة على الاستحسان، وهو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، والاستحسان عنده اختيار أقوى الدليلين في حادثة معينة.

واعتمد أخيرا على العرف والعادة، وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، والأصل في اعتبار العرف دليلا شرعيا قول ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.

وقد قال سهل بن مزاحم: 

كـــلام أبي حنيفة أخذٌ بالثقة وفرار 
مـــن القبح، والنظر فــي معـاملات 
الناس ومــا استقــاموا عليه وصلح 
عليه أمورهم، يمضي الأمور علــى 
القياس، فإذا قبح القياس أمضـاها 
على الاستحسان، ما دام يمضــي 
له، فـإذا لـم يمض له رجع إلى مـا 
يتعامل المسلمون به.

في هذه النقطة يذهب محمد عابد الجابري إلى القول إن الاعتماد على الرأي عند أي حنيفة كان غير مقيد، إلى أن جاء الشافعي فقيده.

في علم الكلام


لم تقتصر أهمية أبي حنيفة على الفقه، بل امتدت إلى علم الكلام، وخصوصا مسألة صفات الله التي أثيرت في عهده، حيث عاصر أبو حنيفة، مؤسس المعتزلة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والجهم بن صفوان صاحب تيار الجهمية.

يقول أبو حنيفة في هذه المسألة: 

إن الله لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته
الذاتية والفعلية.

والمقصود بذلك، أن الله لم يحدث له اسم من أسمائه ولا صفة من صفاته، والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، أن كل صفة يوصف الله بها ولا يوصف بضدها هي صفة ذاتية (العلم، القدرة، الحياة).

ومن المسائل التي كانت مطروحة في عهد بني أمية واستمرت إلى أوائل العهد العباسي، هي مسألة الحرية الإنسانية.

وفي هذا الصدد يعلن أبو حنيفة المذهب الكسبي الذي سيتخذه المذهب السني فيما بعد، فجميع أفعال العباد هي كسبهم على الحقيقة، لكن الله خالقها.

محنة أبي حنيفة

عاصر أبو حنيفة نهاية الخلافة الأموية وبداية الخلافة العباسية، ويقال إن يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة، أرسل إلى أبي حنيفة ليجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يده، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، فحلف الوالي أن يضربه إن لم يقبل، فنصح الناس أبا حنيفة أن يقبل ذلك المنصب، فقال أبو حنيفة: 

لو أرادنــي أن أعد له أبواب مسجد 
واســط لم أدخـل فـي ذلـك، فكيف 
وهــو يريـد منـي أن يُكتب دمُ رجـل 
يُضـرب عنقُه وأختم أنـا علـى ذلـك 
الكتـاب، فـوالله لا أدخـل فـي ذلـك 
أبدا.

خرج أبو حنيفة بعد ذلك من السجن، وبعد سنوات طلب من الخليفة أبو جعفر المنصور أن يتولى القضاء، فرفض أبو حنيفة، وما كان من الخليفة إلا أن أمر بحبسه حتى توفي فى السجن.

لم ينتشر المذهب الحنفي في حياة أبي حنيفة النعمان، وإنما بعد مماته وكان أبو يوسف القاضي أول من كتب في الفقه الحنفي، ثم انتشر المذهب أكثر على يد محمد بن الحسن.