قضايا وآراء

من الذي يدفع "السيسي" للتورط في ليبيا؟

1300x600
تلويح السيسي بالتدخل العسكري في ليبيا، أسال كثيرا من الحبر، ومئات التحليلات، ليس لأهمية السيسي، بل لكونها تجاوزت حكومة الوفاق المُعترف بها دوليا، وفاقت النزاع في ليبيا كليا.

وذهاب السيسي للقول بأن مدينتي سرت والجفرة خط أحمر بالنسبة له، يأتي في إطار "هرطقات سيساوية" معتادة، فالمنطق يقول إن الخطوط الحمراء لمصر تتمثل في حدودها مع الكيان الصهيوني، وسد النهضة الذي يهدد مصر تهديدا وجوديا جذريا، لكن السيسي قال صراحة في أكثر من مناسبة إن أمن الكيان الصهيوني وسلامته هي مهمته التي يقوم بها على أكمل وجه!

والأهمية الاستراتيجية لسرت لا يختلف عليها أحد، لكن هل سرت مهمة استراتيجيا لمصر أم للروس والفرنسيين؟

التدخل المصري العسكري في ليبيا موجود أساسا، فهو ثابت وموثق من خلال شحنات الأسلحة التي تصل، عبر الحدود المصرية لحفتر، والتي لم تنقطع يوما، كذلك تلك الغارات الجوية في العمق الليبي عام 2015 على مدينة سرت، وعام 2017 على مدينة درنة، هذا بخلاف الدعم اللوجستي، وتوفير أحدث المعدات العسكرية لحفتر، التي أصبحت فيما بعد غنيمة لقوات الوفاق. أيضا لا نغفل وجود مستشارين عسكريين مصرين موجودين مع حفتر.

تلك مقدمة كانت ضرورية للوقوف على الأبعاد الحقيقية للموقف المصري والعربي في ليبيا، وكذلك اليمن، ومن قبل العراق وسوريا.

هناك محددات رئيسية قام عليها النظام العربي القمعي المرتبط ارتباطا وثيقا بالأطماع الأوروبية في المنطقة. وأبو ظبي الآن هي المرجعية السياسية والإعلامية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية لأنظمة القمع العربي، التي تجلت في بلدان الربيع العربي. وما "هرطقات السيسي" إلا تجل أيضا لهذه المرجعيات التي تهدف لنشر الفوضى وعزل الشعوب العربية عزلا كليا بعضها عن بعض، ليسهل السيطرة عليها، بعد عزل كل شعب في وطن محدد الجغرافيا، لتضيع معه قوة الشعوب العربية والإسلامية ولحمتها.

وكان جمال عبد الناصر هو من حمل ذلك المشروع على عاتقه من خلال نظرية "القومية العربية". والثابت أن النظام العربي، منذ نشأته، جعل من الجيوش والمؤسسات الأمنية والدينية والإعلامية أدوات للقمع؛ فالأجهزة الأمنية هي حائط صد أول، وإذا فشلت يأتي دور الجيش بتدخله المباشر. وما نراه من انقلاب السيسي سابقا، وانقلاب حفتر والمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، إلا ترجمة لذلك.

النظام القمعي العربي مهمته الأساسية حماية المشروع الصهيوني حماية مباشرة من خلال دول الطوق (مصر، الأردن، سوريا، لبنان، وكذلك سلطة رام الله)، وهو ما حدث بالفعل من خلال توقيع معاهدات خنوع مع الكيان. وهناك حماية غير مباشرة تتمثل في الدور الخليجي تحديدا (السعودية والإمارات والبحرين)، وهذا ما يفسره التطبيع العلني بالمستويات والأصعدة كافة دون توقيع معاهدات رسمية، وهنا يجب عدم نسيان تنازل مصر عن مدينة أم الرشراش المصرية لصالح الكيان، وتنازل السيسي عن تيران وصنافير لصالح الكيان بغطاء سعودي.

وبالعودة للسيسي، فهو يعلم أنه لو ترك الثورة الليبية تأخذ مسارها، فهذا يعني ضرب المشروع الصهيوني، وهذا يفسر علاقة حفتر مع الكيان بتنسيق السيسي ورعايته. أيضا يعلم رأس الانقلاب في مصر يقينا أن وصول الشعب الليبي لهذا المستوى الثوري، فإنه يعني بطبيعة الحال أن يصل الشعب المصري إليه.

إذن المعركة التي يخوضها السيسي وجيش كامب ديفيد معركة بقاء لهم في سدة الحكم، وهي ضربة استباقية يخوضها الجيش ضد شعب مصر عبر محاربته الشعب الليبي. كذلك ومن الأصول والأسس التي قام عليها النظام العربي نظرية الأخ الأكبر، ففي كل إقليم يوجد دائما الأخ الأكبر، وهو عرف متعارف عليه عندما يأتي الحديث عن السعودية ومصر تحديدا، فيُوصف كلاهما بالشقيقة الكبرى! وتتلخص مهمة هذا الأخ الأكبر حين يحاول أي شعب الخروج من عباءة القمع والطغيان.

هنا يأتي دور ذلك الأخ أو الشقيقة الكبرى لإعادة هذا الشعب إلى حظيرة الطاعة، وما حدث مؤخرا في سقطرى خير دليل، عندما تخلت السعودية عن حماية الأرخبيل لصالح قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، لتكون تكئة يستند عليها الكيان الصهيوني لوضع قدمه في مياه المحيط الهندي!

الحقيقة أن النظام العربي بأكمله عبارة عن صخرة كبيرة تستند لصخرة صغيرة، فإذا ما ذهبت الصخرة الصغرى ذهبت الصخرة الكبرى، وهذا بدا واضحا من خلال جامعة الدول العربية، التي أنشئت بإيحاء من وزير خارجية بريطانيا، فعقدت أول اجتماع لها عام 1946، في ما عرفت بقمة أنشاص، ولا تزال مخرجات هذه القمة قائمة حتى اليوم.

ولأن النظام القمعي العربي واحد، فإذا ما سقط أحدهم سقط الباقون، وهذا يفسر موقف السعودية والإمارات من ثورات الربيع العربي.

وبالعودة لموقف المنظومة الانقلابية المصرية، نجد أنها امتداد لعهود سابقة، فالاحتلال البريطاني قام بتهيئة الجيش المصري لهذا الدور استكمالا لدور محمد علي، مؤسس الجيش المصري الحديث، الذي انشق عن الدولة العثمانية وحاول ضربها أكثر من مرة. وربما هذا يفسر العداء التاريخي للمؤسسة العسكرية المصرية تجاه تركيا؟!

ولأن النظام العربي القمعي تأسس على نظرية هدم الأخوة الإسلامية، فقد قام عبد الناصر، على سبيل المثال، باتخاذ مواقف عدائية ضد المسلمين، ودعم كل الحركات الانفصالية المعادية للإسلام، كما حدث خلال مشاركته مجرمي تنزانيا لإبادة مسلمي زنجبار، وحرب اليمن، وانقلاب القذافي، ومن قبله الكونغو.

وما يجعل السيسي مطمئنا، هو أن الغرب والروس والأمريكان يؤمنون بأن الحكم العسكري في الشرق الأوسط، هو الضمان الوحيد لتحجيم العملية الديمقراطية التي قد تنتج حكومات ذات طابع إسلامي، لذلك فهم يدعمون الانقلابات العسكرية أينما وجدت، كما حدث في مصر، وتركيا التي أفشلت المحاولة الانقلابية عام 2016.

وبالعودة مرة أخرى لتهديد السيسي بالحرب في ليبيا، وبغض النظر عن أنه تهديد يأتي في خضم تهديد وجودي لمصر فيما يخص سد النهضة الإثيوبي، فالمؤكد أن هذا القرار مرتبط أساسا بالكيان الصهيوني وفرنسا، ومحور الثورة المضادة في السعودية والإمارات؛ اللتين سارعتا لمباركة تهديدات السيسي، إذ إن السيسي مجرد أداة بيد هؤلاء.

وتمكن الدوافع الحقيقية لهذا التوجه في محاصرة ساحات الربيع العربي، تحديدا في ليبيا التي أصبحت أو كادت تكون نموذجا ناجحا يعطي مؤشرات لإمكانية الخروج من عشرية سوداء مرت بها ثورات الربيع العربي، وكذلك مواجهة التحدي التركي الذي أفشل مخططات الثورة المضادة.

واقتراب الساحة التركية من الساحة العربية هو أحد أهم الخطوط الحمراء بالنسبة للغرب والصهاينة وأنظمة القمع العربي على حد سواء، لأن ما شهدته المنطقة منذ أكثر من مئة عام كان نتيجة مباشرة لانفصال الساحتين التركية والعربية بعضهما عن بعض.

ولأن أي قرار لا بد له من دوائر تصنعه، فإن دائرة صنع القرار في المنطقة العربية برمته هي صهيونية، فالربيع العربي يمثل تهديدا مباشرا للمشروع الصهيوني، خاصة بعد فشل مخططات ابن زايد وابن سلمان ومرتزقة الشرق والغرب.

الخلاصة، إن ما يحدث الآن في ليبيا يأتي في إطار تطورات استراتيجية سابقة من خلال دعم التدخل العسكري الروسي في سوريا، ودعم الانقلاب الفاشل في تركيا، ودعم تنظيمات إرهابية لمواجهة تركيا، والمحاولات المستمرة لضرب الاقتصاد التركي، والحروب الإعلامية ضد تركيا، وما محاولة دفع الجيش المصري للتدخل المباشر في ليبيا إلا استكمالا لهذه المسارات.