أخبار ثقافية

جورج أورويل يكتب عن الربيع العربي!

كان أورويل أكثر جرأة وتحرّرا من سميث الشّخصية التي شكّلها في روايته "1984"- cc0

في "أوشايانيا" لم يتبرأ سميث من "الأخ الاكبر"، بل عاد إليه راضخا بعد تمرّده، وفي بريطانيا تبرّأ جورج أورويل من البرجوازية إلى حدّ تغيير اسمه احتراما لعائلته (من البرجوازية المتوسّطة).

 

لقد كان أورويل أكثر جرأة وتحرّرا من سميث الشّخصية التي شكّلها في روايته "1984". يحمل سميث "جينات الحزبيّ الجيّد" الذي يقدم ولاءه المطلق للأخ الأكبر وهو "الداعية " الذي يعلن من خلاله أورويل عن فقدان الإنسان هويّته: فتتكلّس المشاعر ويتجمّد العقل ولا تفكير ولا عمل سوى الولاء والولاء المطلق.... وتصير الشعارات معادية للذات البشرية ومؤكدة للعدوانيةّ ف: "الحرب هي السلام والحريّة هي العبوديّة...الجهل هو القوّة".

وهو القائل: "لقد رأيت معارك كبيرة يُكتب عنها، عندما لم يكن هناك معارك. وصمتاً كبيراً عندما كان يقتل مئات الرجال. لقد رأيت القوّات التي كانت تحارب بشجاعة تدان بالجبن والخيانة. وآخرين لم يحاربوا قطّ ولم تطلق عليهم طلقة واحدة يَحْيَون كالأبطال في معارك وهميّة".

سيرة ثائر بالفطرة

 
الخامس والعشرون من يونيو سنة ثلاث وتسع مائة وألف ولد أورويل في عائلة بورجوازية من الطبقة المتوسّطة... لم يتجاوز عامه الأوّل حتى ارتحلت به والدته من الهند إلى بريطانيا التي ترعرع فيها بين ضغوطات الاحتياجات الناقصة دائما وحاجته المكتملة فيه للتفكير والشك والتحرر والانعتاق من براثن قيود الجهل.

 

لهذا سنراه وهو العاجز عن استكمال دراسته يحارب لينجح بتفوّق ويحصل على المنحة التي أمّنت له فرصة تحصيل العلم والمعرفة.

 

كان يقفز من مرحلة إلى أخرى مثقلا بالأفكار متثاقلا بذاكرة من التأمّلات والتساؤلات فجّرها في كتاباته. فلا غريب إن ابتدع مصطلحات جديدة في مختلف أعماله وقدم مفاهيم مغايرة لما ألفناه في الكتابات الأخرى.

 

فقد أبدع في استعمال رمزيّة الأخ الأكبر ووزارات الحقيقة والحب ليوظّفها في رسم ملامح الدّيكتاتورية. ومن ثورة الحيوانات في مزرعة الحيوان نقلنا الى جمود البشر والعقل البشري في 1984 حيث سميث صحفي في حزب حاكم وهو الحزب الوحيد الذي يسير وزارة الحب مهمتها التعذيب بتهمة الحب ووزارة الحقيقية مهمتها خلق الأكاذيب وتزييف الحقائق ...إمبراطوريّة الحزب الواحد الذي يستأصل الألسنة المنادية بالحرية ويكبّت كلّ صوت معادي لمفاهيم الولاء والعبوديّة...حتى أنّ سميث ضحّى بحبيبته لتتعذب مكانه من أجل نيل رضى الأخ الأكبر..

لا انتماء إلا للفكر

 
كان اريك آرثر بريل المعروف بجورج اورويل منشغلا بالكتابة الصحفية وسيلته لإيصال أفكاره فكان يهاجم الديكتاتورية الفاشية ويؤمن بالثورة الاجتماعية في انجلترا ثورة يراها في انفجار الطبقة العمالية.

 

كما كان يدافع عن حرية العقيدة وفصل الكنيسة عن الدولة، يؤمن والاشتراكية الديمقراطية... ولكن في المقابل أيضا تصدّى لكلّ هذه التيّارات كلمّا رأى فيها تهديدا لإنسانية الإنسان واستمات في الدفاع عن الفكر والعقل الحرية وهاجم حتى الطبقات الفقيرة على اعتبار تقاعسهم عن التفكير وتكاسلهم في الدفاع عن كرامتهم وحقوقهم.

 

لم يفلت ولا تيّار من أورويل لأنّها مبنية على المصالح الضيقة، حتى أنه قال ذات مرة عن الاشتراكية: "الحقيقة أن عدداً كبيراً من الناس الذين يقولون عن أنفسهم اشتراكيّين، لا تعني الثورة لهم تحرّك الجماهير الذين يطمحون إلى أن ينتسبوا إليهم.

 

إنّها تعني مجموعة إصلاحات نفرضها «نحن» الأذكياء على: «هم الأغبياء» من الطبقة الدنيا". جورج أورويل السائح من بلد الى آخر باحثا عن مكان يحتمل هدوءه الصاخب فكرا، لا يعنيه الانتماء للأمكنة، للناس، للأشياء بقدر ما يعنيه انتماء لعقله.

 

فلا يجب لهذا الفرد الذوبان في إرادة المجتمع حتى يفقد استقلاليته وحرّيته...لقد حارب أورويل كل من يمارس ثقافة الاستلاب والديكتاتورية من دعاة الثقافة والساسة والسياسيين المنافقين.

ما قبل رواية 1984 

 
رواية 1984 تمخضت عن مسيرة تراوحت بين المقالات الصحفية والمؤلفات لكاتب كان يتأمّل بعمق الواقع ويستمتع بتساؤلاته، بممارسة فعل التفكير، حيرة وشكّ وألم وهو يحاول تقبل فكرة أن من البشر أمواتا وهم أحياء، جثث هامدة تتقاسم معه نفس الأوكسجين، شخوص تتمتّع بالجهل، تغرق في بؤس وتستمرّ بسلام روحي وكأن لا شيء، حالة موت مرعبة تدبّ في الأرجاء... من هؤلاء الأموات؟

 

اقرأ أيضا: رواية "أرض السودان" لتاج السر.. المصالحة بين الشمال والجنوب

 

هؤلاء الأموات في 1984 انتصرت عليهم حيوانات المزرعة في ثورتهم بقيادة الخنزير ...من رواية " مزرعة الحيوان " -التي لم يتجرّأ على نشرها إلاّ ناشرا- إلى روايته 1984: صور تجلد جورج، تنغرس في حواسّه كالسيف، يبحث عن ملجأ، يجد نفسه هائما في أفكاره وحيدا مغتربا، ويموت وحيدا، وكان جبرا ابراهيم جبرا قد ترجم له رواية " مزرعة الحيوان " سنة 1967.


حين كتبت 1984، كان العالم يختنق بقضايا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي قلبت الموازين ودمّرت أوروبا...كانت بريطانيا تغرق في فقرها وفرنسا في قبضة النازية.. أمّا هتلر فهزيمته في الحرب مكلّفة جدا ،كل هذه التقلبات تشير إلى خارطة سياسية جديدة حاول أورويل هندستها فكريا في كتابه الذي ترجمه العالم بكثرة وأقبلت عليه الصحافة والنقاد خاصة بين سنوات 1980 و2000.

 

ربما البعض قد حاد بتأويلاته عن المقصد الحقيقيّ من الرواية وهذا قد توقعه أورويل ولكن تظلّ الصورة الكاريكاتورية عن الإنسانية المفقودة مترسّخة بعد كل قراءة أو تأويل.

كانت وصيته الأخيرة وهو يعاني من مرض السلّ: " لا أريد لجسدي أن يحرق، أريد أن أدفن في مقبرة في نفس المكان الذي مت فيه." وكأنه لم يشأ لتلك الأفكار والمشاريع التي تصخب بها حواسه، لم يشأ أن تتحول إلى رماد ...لم يشأ لحالة الغليان الفكري أن تنتهي مع آخر نفس يلفظه. 

ماذا لو كان بيننا اليوم صاحب رواية 1984 هل يكتب رواية جديدة أم يكتفي بإعادة نشر كتابه بنفس التفاصيل ونفس المسار ولكن فقط من 1984 الى 2020؟ حين كتب 1984 لم يفكّر جورج أورويل في مسارات الدّول العربيّة وثورات الرّبيع العربي ولكن طرح تصوّرات عامّة عن مآل الضغط والتفقير في بلد الحزب الواحد والأخ الكبر أو الزّعيم الديكتاتور فتنبّأ بالثّورة ومجتمع ما " بعد الحقيقة " في العالم العربي والحرب المعلوماتيّة. أما في الدّول العربيّة فزمن الأخ الأكبر تلاه زمن الإخوان الكبار..

بالتمعن في كتب أورويل: لو كان صناع القرار والزعماء من القراء الجيدين لانتبهوا إلى أن مصير الأخ الأكبر الثورة كما حصل في المجتمعات العربية، ولكن تظل علاقتهم بالرواية علاقة تسلية بالضبط كعلاقتهم بالشعب علاقة تحريك وتمتع بالتلاعب بالعقول وتخديرها.

 

لنكتفِ بمقولته الشهيرة من كتابه "مزرعة الحيوان": "كلّ الحيوانات متساوية، لكنّ هناك حيوانات أكثر مساواة من غيرها".