تقارير

"خان يونس" مذبحة اختفت من التاريخ ووثقها صحفي أمريكي

مجزرة خان يونس واحدة من كبرى المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق اللاجئين الفلسطينيين (أرشيف)

تعد مذبحة خان يونس التي وقعت في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1956 واستمرت عدة أيام واحدة من كبرى المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق اللاجئين الفلسطينيين في مخيم خان يونس جنوبي قطاع غزة وراح ضحيتها أكثر من 250 شهيدا. وبعد تسعة أيام من المجزرة الأولى نفذت وحدة من الجيش الإسرائيلي مجزرة وحشية أخرى راح ضحيتها نحو 275 شهيدا في نفس المخيم، كما قتل أكثر من 100 فلسطيني آخر من سكان مخيم رفح للاجئين في نفس اليوم، وامتدت المذبحة حتى حدود بلدة بني سهيلا. 

وجاءت المجزرة على خلفية قرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس عام 1956، وفي اجتماع سري وافقت بريطانيا وفرنسا ودولة الاحتلال على شن هجوم من ثلاث جهات ضد مصر، وبدأ الهجوم بضربة إسرائيلية على مواقع مصرية في شبه جزيرة سيناء في 29 تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام. 

 



وبعد ذلك بيوم، وجهت بريطانيا وفرنسا إنذارا إلى كل من "إسرائيل" ومصر، الذي كان عبارة عن ذريعة للعملية اللاحقة من قبل كلتا القوتين للتدخل وحماية قناة السويس. وطالبت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في 30 تشرين الأول/ أكتوبر بوقف الأعمال القتالية وأن يسحب الاحتلال الإسرائيلي قواته إلى خط الهدنة، وأن توقف كل من فرنسا وبريطانيا عملياتهما العسكرية فورا. 

في اليوم التالي، قصفت القوات البحرية الفرنسية رفح، في حين قام سلاح الجو الملكي البريطاني بغارات بالقنابل على المطارات المصرية، وبدأ الجيش الإسرائيلي في قصف قطاع غزة. 

وبعد صدور قرار وقف إطلاق النار في الثاني من تشربن الثاني/نوفمبر عام 1956 من قبل الأمم المتحدة. قامت القوات الإسرائيلية بعملية توغل واسعة في غزة، وزعمت القوات الإسرائيلية أن الهدف من عملياتها تعقبها فدائيين فلسطينيين شاركوا في حرب السويس إلى جانب مصر. 

وردا على المقاومة التي أبداها سكان خان يونس بقطاع غزة قصف الجيش الإسرائيلي البلدة بسلاح المدفعية، مما أدى إلى خسائر فادحة في أرواح المدنيين، وبدأت المذبحة صباح الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر حيث استيقظ السكان على مكبرات صوت مركبات الاحتلال العسكرية تنادي بخروج جميع الشبان والرجال من سن 16 عاما وحتى سن الخمسين، واقتادتهم قوات الاحتلال إلى الجدران والساحات العامة ثم أطلقت عليهم النيران دفعة واحدة من أسلحة رشاشة سقط على أثرها مئات الشهداء في اليوم الأول. 

وتواصلت المذبحة حتى الثاني عشر من نفس الشهر حيث واصلت قوات الاحتلال مجازرها بحق المدنيين من سكان خان يونس ومخيمها وقراها وقوات الجيش المصري التي كانت تدافع عن المدينة حيث ارتقى المئات من الشهداء والجرحى. 

ويوثق الباحث إحسان خليل الأغا في كتابه "خان يونس وشهداؤها"، الصادر عام 1997، أسماء 520 ضحية سقطوا في إعدامات ميدانية أو في القصف العشوائي الجوي أو البحري في مذابح متسلسلة. 

 

 


ويصف الأغا ما وقع في مدينته بـ"المذبحة الفريدة" بسبب اتساع رقعتها وعدد الشهداء وطبيعة القتل وطول وقت التنفيذ، مستغربا من عدم الالتفات إلى المذبحة طيلة عقود خلت. 

فيما يقول الباحث غازي الصوراني في دراسة بعنوان "قطاع غزة 1948-1993" إن القتل لم يكن في مدينة خان يونس ورفح وحدهما بل طال مختلف أرجاء القطاع، فمدينة غزة قتل فيها 256 أما وسط القطاع فقتل فيه 62 مواطنا. 

ويضيف الصوراني في دراسته التي صدرت في غزة عام 2011 في قطاع غزة أن عدد الشهداء وصل إلى 930 شهيدا، و215 مفقودا و716 جريحا في عمليات انتقامية نفذتها قوات الاحتلال في مختلف مناطق القطاع. 

بعد انسحاب قوات الاحتلال من غزة وسيناء في آذار/ مارس عام 1957 وبعد ذلك بوقت قصير، اكتشفت مقبرة جماعية في محيط خان يونس، احتوت على جثث 40 فلسطينيا أصيبوا برصاصة في الجزء الخلفي من الرأس. 

وفي 15 كانون الأول / ديسمبر عام 1956، قدم تقرير خاص لمدير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، معلومات عن وقوع مجزرة في رفح، التي أعقبت احتلال المدينة مباشرة. 


ووفقا للتقرير الأممي، وبناء على قائمة موثوقة بأسماء الأشخاص الذين أعدموا في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، فقد تم إعدام 275 شخصا في ذلك اليوم، وتفيد مصادر فلسطينية أن عدد القتلى بلغ 415 شهيدا، و57 آخرين لم يعرف مصيرهم أو اختفوا، ووفقا لأحد قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي كان طفلا في خان يونس في ذلك الوقت الذي شهد عملية إعدام عمه، فقد قتل 525 من سكان غزة من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي. 

وفي حين وثقت الأمم المتحدة مقتل 250 فلسطينيا في خان يونس، لم تتحدث عن مجزرة اقترفها جيش الاحتلال بحق المدنيين من الفلسطينيين أو تحمله أية مسؤولية، ولم تقدم مذكرات قانونية لإخضاع أي من قادة الاحتلال للمساءلة بارتكاب جرائم حرب منذ المذبحة، وذكر المؤرخون أن مذبحة خان يونس كان الهدف منها استئصال الفدائيين من غزة، والقضاء عليهم وإبادتهم، وأنه رغم بشاعة المجزرة ودمويتها لم يتم تقديم مرتكبيها إلى المحاكم الدولية لمحاكمتهم ومعاقبتهم على جرائم الحرب التي ارتكبوها بحق أبناء الشعب الفلسطيني. 

ومن بين الشهود على المجزرة كان الجندي الإسرائيلي ماريك جيفن الذي عمل في صفوف الجيش الإسرائيلي في غزة خلال أزمة السويس، وفي عام 1982 وبعد أن أصبح صحفيا، نشر جيفن ملاحظاته أثناء المشي في المدينة بعد فترة وجيزة من عمليات القتل، وقال في رسالته لمرحلة ما بعد الاحتلال لخان يونس: "في بعض الأزقة وجدنا جثثا متناثرة على الأرض مغطاة بالدم وقد تحطمت رؤوسهم، ولم يكن أحد يهتم بنقلها، لقد كان مروعا، لا يمكن أن تعتاد على مرأى من مسلخ الإنسان." 

 

 


في عام 2009، نشر الصحفي والرسام الأمريكي جو ساكو كتابا من 418 صفحة عن عمليات القتل في خان يونس ورفح، بعنوان "هوامش في غزة" وتعتمد الرواية المصورة على شهود عيان، وكتب ألكسندر كوكبرن، الذي قام بمراجعة الكتاب في صحيفة "نيويورك تايمز"، أنه "يقف وحده ككاتب ورسام الكاريكاتير لأن قدرته على رواية قصة من خلال فنه يتم جمعها مع تحقيقات بأعلى مستويات الجودة"، وذكر أن "من الصعب تصور كيف يمكن لأي شكل آخر من أشكال الصحافة أن يجعل هذه الأحداث مثيرة للاهتمام".

ويوثق الكاتب الصحفي المالطي، حامل الجنسية الأمريكية، ساكو على لسان شهود عيان تفاصيل قتل المدنيين الفلسطينيين في خان يونس ورفح على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي. 

وخلال جولته في غزة، بُعيد انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000، قال ساكو في لقاء مع الصحفيين، إنه يذكر أنه قرأ شيئا عما جرى في خان يونس ورفح، وعندما حاول جمع معلومات أكثر "تفاجأ أنه لا معلومات كافية"، لذا جاء إلى خان يونس ورفح من أجل سماع "الحقيقة من أفواه شهود عيان". 

وجو ساكو فنان كوميكس وصحفي مالطي أمريكي. اكتسب شهرة عالمية من خلال كتابه "فلسطين" وكتابه عن حرب البوسنة "المنطقة الآمنة غوراجده". 

عاش ساكو في فلسطين سنوات عديدة حتى أنجز عمله الطويل "فلسطين"، الذي كان مجموعة قصص قصيرة وطويلة، بعضها تصف رحلاته ومقابلاته، والبعض الآخر تصوير للقصص التي سمعها. حاز كتابه على جائزة الكتاب الأمريكي عام 1996. 

ورفض المؤرخ والسياسي الإسرائيلي مئير بايل رواية ساكو عن الحادث وقال: "إنه مبالغة كبيرة، ولم يكن هناك قط قتل من هذا القبيل، ولم يقتل أحد، وكنت هناك، ولا أعرف أي مذبحة".

يعترف ساكو بأنه يأخذ جانبا، وكتب "لا أؤمن بالموضوعية كما تمارس في الصحافة الأمريكية... أنا أؤمن كثيرا بالحصول على وجهة النظر الفلسطينية."
  
ووفقا لشهود ومؤرخين فقد بلغ عدد الشهداء ضعف عدد شهداء "مجزرة دير ياسين" وعشرة أضعاف "مجزرة كفر قاسم" ورغم ذلك فإن هذه المجزرة لم تلق الاهتمام الذي تستحقه من المحققين والباحثين ولم تلق التغطية الإعلامية المناسبة رغم أنها تواصلت لنحو 20 يوما أطول من المدة التي استغرقتها مذبحة "صبرا وشاتيلا" عام 1982.