أخبار ثقافية

قصص شخصية للبيع..

القصة الشخصية لم تعد مجرد أحاديث يتداولها الناس بعفوية، ولكنها تتحول إلى أداة نفسية واقتصادية كثيراً ما يتم استغلالها- cco

منذ أيام، لفت انتباهي منشور لإحدى الكاتبات تعترض فيه بصخب على ما تلقته من إحدى الصحف التي تشترط للنشر ألا تكون المقالات ذات طابع شخصي.

 

يشبه هذا الاعتراض ما كنت قد اعتدت عليه من طلابي الذين لم يعتادوا على كتابة ورقة عن الحرية أو المنطق أو أي موضوع في مادة الفلسفة دون تدوين تجاربهم وقصصهم الشخصية

يبدو أن الجميع مرتبط أو متورط بشكل ما في قصته الشخصية بحيث أنه بات من الصعب أن نضعها جانباً ونكمل أحاديثنا بعيداً عنها.

 

من المتوقع اليوم أن تكون القصة الشخصية مدخلاً لمختلف مجالات الحياة؛ فلكي تحصل على منحة دراسية عليك تقديم قصة تدهش الأساتذة، ولكي تحصل على عمل، يتأكد المدير من قصتك التي ستخبره أي نوع من الموظفين ستكون، وحتى على مستوى العلاقات الشخصية، فإن عليك أن تجهز قصتك فلا بد أن يباغتك أحدهم بسؤال: ما قصتك؟

أنت قصة!


لم يكن ينظر الإنسان لنفسه دائماً كقصة لها بداية ما وفصول وعقدة أو مجموعة من العقد ونهاية قابلة دائماً للتجدد. تعد فكرة رواية الإنسان نفسه أو "Self-narration" فكرة حديثة، وهي تفترض أن الإنسان يخلق ذاته ويشكل هويته من خلال دمج التجارب التي يعيشها وإعادة سردها في قصة منسجمة تعبر عن تطور ذاته وتكشف عن حقيقته وتقدم لحياته معنى. 

تقدم فكرة "أنت قصة" للإنسان فرصة أن يكون مؤلفاً متفرداً وأن يكون "سيد معناه"، كما يؤكد دينيز فوستر في كتابه "Confession and Complexity in Narrative"، وذلك عبر امتلاك الراوي أدوات اللغة والتواصل مع الآخرين.

 

يقوم الراوي خلال عملية السرد بإعادة ترتيب الأحداث التي حصلت معه بشكل منطقي ومتسلسل بحيث تقدم تفسيراً لأفعاله ودوافعه وغاياته.

 

وهذه عملية يقوم بها صاحبها ضمناً دون وعي منه - وإن ادعى وعيه بها - كما تؤكد أستاذة الفلسفة في جامعة شيكاغو ماريا شيتمان Marya Schechtman. 


اقرأ أيضا: كيف يتبخر الإنسان؟!


تفترض هذه النظرية أننا جميعاً رواة قصص، وأننا نحن القصص التي نرويها، أو كما يقول عالم النفس الأمريكي جيروم برونر Jerome Bruner "الذات هي قصة تعاد كتابتها على الدوام".

 

وبذلك تحتل قصتك الشخصية مكانة استثنائية: قل لي ما قصتك.. أقل لك من أنت! بل إن عالمنا الحديث جعل من القصة الشخصية رأسمال يروج السلع والعلامات التجارية، التي ستشمل الإنسان نفسه في نهاية المطاف.

الترويج لنفسك

كان للمقالة التي نشرتها مجلة "Fastcompany" عام 1997 تحت عنوان "علامة تجارية تدعى أنت" أثر بالغ في ترويج فكرة تسويق الذات والترويج لها، حتى أصبحت الآن ضمن المناهج الدراسية لكثير من البلدان.

 

تقوم الفكرة على إمكانية تسويق الميزات والمهارات الشخصية كعلامة تجارية لا تقلّ قيمةً عن "نايكي" أو "بيبسي"، ويؤسس توم بيترز لفكرة "التسويق الشخصي" بالقول: "الخبر الجيد… أن لدى كل شخص فرصة للتميز.

 

يتمتع كل فرد بفرصة التعلم والتطور وبناء مهاراته. ولكل شخص فرصة ليكون علامة تجارية جديرة بالملاحظة". 

ولعلنا نجد أبرز تمثّل للتسويق الشخصي في ظاهرة "المؤثرين" على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتحول كل "مؤثر" إلى علامة تجارية ستكون هي نفسها منصة تسويقية ودعائية تجارية.

 

تقدم مواقع التواصل الاجتماعي للعلامة التجارية الشخصية فرصة تسويقية عبر الصور والفيديوهات أو التدوين المرئي "vlogging" والتي يكون هدفها سرد التجارب والقصص التي تكشف جزءا غير يسير من الحياة الشخصية وتشارك في التغذية الراجعة للسلع والتسويق.

باتت القصة اليوم مدخلاً تسويقياً هاماً بعد عناية علماء الاقتصاد بدراسة السلوك والطبيعة الإنسانية، وتعد مصدراّ لتشكيل الأحداث الاقتصادية كما يرى روبرت شيلر Robert Shiller، الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2013.

 

تشكل القصة الشخصية أساس فكرة ترويج الذات كعلامة تجارية، فكل سلعة بحاجة إلى قصة لتثير انتباه المستهلك، كما يعرف المختصون بالتسويق والمبيعات.

أخطر من قصة!


وكما يحدث في الإعلانات التجارية التي يعلم جميعنا أنها أبعد ما تكون عن الواقع، يحول الأفراد قصصهم الشخصية إلى ملاحم وسرديات بطولة تقدم شكلاً جمالياً يعبر عن توقعات الآخرين (المستهلكين) أكثر مما يعبّر عن واقع وحقيقة الشخص.

 

لهذا السبب تؤكد شيري توركلي Sherry Turkle، أستاذة الدراسات الاجتماعية للعلوم والتكنولوجيا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن هذا النوع من السردية الحياتية غالباً ما يكون مختزلاً وقائم على جذب الانتباه، ساعياً للتوافق والاندماج، لا البحث عن الذات والتفكير بها وتأملها.

لا يقف دور القصة الشخصية عند كونها أداة ترويج للعلامات التجارية، ولكنها أخذت أشكالاً أخرى مثل أن تكون أداة للاعتراف الحديث الذي يعبر عن رغبة المعترف بالتطهر وكشف حقيقته في المجال العام، في دور العبادة أو حتى في الفيسبوك.

 

ويؤمن البعض أن للسردية الشخصية دوراً في خلق الإنسان من جديد وتخليصه من عقد الماضي، فهي تعد الأداة العلاجية المفضلة لكثير من العيادات النفسية التي تنتظر من القصة أن تصلح وتحرر المريض من أزماته. 

من الواضح أن القصة الشخصية لم تعد مجرد أحاديث يتداولها الناس بعفوية، ولكنها تتحول إلى أداة نفسية واقتصادية كثيراً ما يتم استغلالها لأغراض لا تخدم مصالح الإنسان.

 

وأخطر ما في القصة هو تصديقنا لها! عندما نؤمن أن ما نقوله عن أنفسنا يعبر عن الحقيقة التي نظن أننا نسيطر عليها بامتلاكنا سرديّة متخيّلة عنها دون أن نتساءل إن كانت قصصنا جديرة بالثقة.

هل نثق بقصصنا؟


تحتل القصة الشخصية مكانة لا نستطيع إنكارها، ولكننا نستطيع -كما فعل الفيلسوف التحليلي غالن ستروسن Galen Strawson- الاعتراض على تحويلها إلى أدوات تشكل هويتنا، تقول لنا من نحن، وتصورنا كوحدة متكاملة تسير في خط زمني باستطاعة ذاكرتنا استدعاؤه بدقة وأمانة.

 

يشكك ستروسن في مقالته "The Unstoried Life" بأننا كائنات تروي نفسها بشكل فطري، بل يرى أن طبيعتنا الإدراكية غير مهيئة لنقل قصة تمثل حقيقتنا، إذا ما اعترفنا أنه لا حياة كاملة إنما فقط أجزاء متفرقة لا تصلح لتصميم سردية متماسكة.

هذا ما تنبّه له الأنثروبولوجيون بتأسيسهم لتكنيك "الملاحظة والمشاركة" في الدراسات الإثنوغرافية. لا يثق الأنثروبولوجي بالقصص الشخصية كمصدر وحيد لتلقي المعلومات، وذلك لما لوحظ من تغير وتبدل لسرديات الأشخاص وعدم دقتها مقارنة بالواقع.

 

لذلك على الإثنوغرافي الحريص على تلقي معلومات دقيقة بخصوص ظاهرة أو سلوك ما، أن يعيش بنفسه مع الأفراد المشاركين في الدراسة ويشاركهم ذلك السلوك، في محاولة منه لملاحظة وقول ما لا يقال.

نحن أيضاً، ربما علينا التشكيك فيما إذا كنا ننقل الحقيقة من خلال قصصنا الشخصية، وإن كانت ذكرياتنا محفوظة عن التنكر والتشويه. غير أنّ ذاكرتنا تؤكد لنا باستمرار أنها انتقائية وتفتقر للحيادية في كثير من الأحيان، فقد ننسى أحداثاً مؤلمة لنتجاوزها، بينما نتمسك بأخرى سعيدة لما تقدم لنا من شعور جيد نرغب به.

 

وكما تقول الأنثروبولوجية مارجريت ميد في مقدمة كتابها "The changing Culture of an Indian Tribe" أن الذاكرة المشوهة للماضي قد تتحول إلى ذريعة ودرع لحماية صاحبها من قسوة وقائع الحاضر.

بالإضافة إلى عدم قدرتنا على الإحاطة بالأحداث التي عشناها وشهدناها بأنفسنا، نحن عاجزون عن إدراك ما هو خارج تجربتنا الشخصية وكل ما كان جزءً من تشكيل ذواتنا من ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية وعوامل بيولوجية خارجة عن نطاق إدراكنا.

 

لا تبدو في الحقيقة قصصنا عن أنفسنا أكثر من مجرد خيالات تعتمد على أحداث مجتزأة، وقدرة أدمغتنا على ملء الفراغات والربط بين المتفرقات، وتقديم سردية متكاملة قادرة على لفت الأنظار وإبرام صفقة رابحة.