مدونات

مقابلة تحت المطر

محمد الحاج علي- طبيب سوري كاتب

عادت بي الذاكرة اليوم إلى تجربة إعلامية أتذوق حلاوتها بعد مرور سنوات من خوض غمارها، وذلك على الرغم من ظروفها القاسية وترتيباتها غير المهنية مما جعلها عالقة في ذاكرتي.

حدثت تلك القصة يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر 2013، وكنت وقتها ناطقا رسميا باسم الجمعية الطبية الإسلامية البريطانية (BIMA) بالإضافة لكوني ناطقا باسم الجمعية الطبية السورية البريطانية (SBMS)، حيث تلقيت اتصالا هاتفيا من شبكة "Sky News"، يطلب مني اللقاء مساء للتعليق على حادث استشهاد الطبيب البريطاني عباس خان في أحد سجون النظام السوري في العاصمة السورية دمشق.

طبعا رحبت بالطلب ووافقت على اللقاء، وخصوصا أنه أتى بعد يوم من إصدار بيان مشترك باسم الجمعيتين ينعى فيه الشهيد ويطالب بجثمانه، وكانت مسألة استعادة الجثمان أولوية قصوى تم التنسيق فيها مباشرة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر (وهذه لها قصة أخرى).

وأعود للمقابلة التي تم تحديد مكانها على مقربة من قاعة البلدية (City Hall) في مدينة كارديف، وذلك لعدم وجود استوديو ثابت للشبكة في المدينة. توجهت إلى المكان المتفق عليه بسيارتي وكان الطقس ماطرا وعاصفا، وعندما وصلت اعتقدت للوهلة الأولى أن اللقاء سيجري داخل مبنى البلدية نفسه، أو على الأقل عند بوابته التي تؤمن بعض الحماية من المطر، ولكن الشخص المعد كان ينتظرني عند عربة البث وطلب مني أن نقوم باللقاء في الشارع وتحت المطر (ليس داخل عربة البث). وطبعا رفض كل تمنياتي بالتوجه نحو مبنى مجاور يتبع لجامعة كارديف (يبعد عن العربة حوالي 20 مترا) أو التوجه إلى مدخل قاعة البلدية الذي يبعد نفس المسافة تقريبا.. جاء رفضه بطريقة غريبة تفتقد كليا إلى اللباقة، وتخلو من المهنية وتتصف بأسلوب عدائي لم أعهده من قبل مع أي وسيلة إعلامية أخرى.

بعد أن أخبرته بأنني قد أغادر إذا لم يحضر مظلة، جلب لي واحدة من النوع الرديء ما لبثت أن تحطمت بعد دقائق بفعل الطقس العاصف. وقلت في نفسي بعدها: هل أغادر وأشتكي من هذا الأسلوب غير المهني، أم أكمل مشواري وأنفذ ما أتيت من أجله؟ وهذا ما كان.

وقفت أمام الكاميرا تحت المطر ولم أشاهد الأستوديو والضيف الآخر في اللقاء، وبدأت بالإصغاء للمقابلة بتركيز. سألت المذيعة الضيف الآخر أولا ليعلق، فبدأ بأسلوب هادئ مهاجما الأطباء الذين يذهبون إلى سوريا بأنهم مدفوعون بأجندات عقائدية (جهادية)، وهذا برأيه ما كان مع عباس خان رحمه الله وغيره من الأطباء.

ثم انتقلت المذيعة بسؤالها لي حتى أرد على ما قاله ضيفها، فبدأت معزيا بالفقيد الشهيد باسم الجمعيتين قبل أن أنتقل إلى الرد عليه متحدثا وبشكل مركز عن قضية سفر الأطباء، وأنها إنسانية بحتة ولا تنبغي شيطنتها. ثم سألت المذيعة سؤالا وقلت لها: هل: ديفيد نوت يذهب إلى سوريا مدفوعا بأجندة جهادية؟؟ هل لديه خلفيات عقائدية.. إلخ؟ وديفيد نوت هو جراح بريطاني شهير استضافته ملكة بريطانيا على لقاء شاي؛ تكريما لجهوده كطبيب حروب قدم الكثير من الأعمال الإنسانية في مناطق الحروب حول العالم.. هنا تغير مسار النقاش واستعدت المبادرة فيه وانتهيت بالتركيز على ما قدمت من أجله.

أنهيت المقابلة وبذلتي مبتلة تماما بالماء، وخلعت الجاكيت حتى أستطيع أن أجلس في السيارة وأنا أقل بللا، وغادرت عائدا إلى منزلي.

تلقيت اتصالا في ذلك المساء من أحد محرري صحيفة الشرق الأوسط من لندن، وهو يحمل الدكتوراة في العلوم السياسية، وقال لي إنه مسرور جدا بالرد الذي شاهده مع مجموعة من أصدقائه في أثناء متابعة أخبار تلك الليلة..

وكأن ذلك الاتصال جاء ليقول لي؛ إن الرسالة وصلت وأن الهدف تحقق، وما كان المطر الغزير إلا أجمل لحظات لي في مساء يوم شتوي عاصف، وجاءت قطرات المطر المنهمر لتغسل أي غضب في قلبي قبل المقابلة.

لا شيء في هذه الحياة بلا ثمن، ونحن مكلفون دوما بالسير على الطريق مهما كان وعرا وشائكا، ويبقى الوصول بيد رب العباد.. ولنا في قصة ضمرة بن جندب خير مثال.

 

* طبيب سوري- كارديف (بريطانيا)