قضايا وآراء

‏سراب التشاطر السلطوي في كابول

1300x600
‏شكك الرئيس الأمريكي جو بايدن في مؤتمره الصحافي الأول الذي عقده بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية بالتزامه بمغادرة قواته في الأول من أيار/ مايو المقبل من أفغانستان، كما اتُفق عليه سابقاً في الدوحة بين واشنطن وحركة طالبان الأفغانية، لكنه شدد في المقابل على أن المغادرة ستحصل ولكن لم يحدد متى.

‏من المعلوم أنه لم يتبق أمام القوات الأمريكية سوى 2500 من جنودها في أفغانستان، بعد أن وصل عديد قواتها عام 2009، أيام حكم الرئيس السابق باراك أوباما، إلى مائة ألف من الجنود. لكن التشكيك الأمريكي هذا قوبل برد فعل قوي من طالبان، وربما تكون له انعكاساته على الواقع. فعلى صعيد الأقوال حذرت حركة طالبان من عواقب التخلي عن الالتزامات، وتعهدت بإعادة العمليات العسكرية ضد القوات الأجنبية في أفغانستان، وقرنت الأقوال بالأفعال حين نفذت عمليات على الأرض استهدفت قوات أمريكية، ما يعني جدية التهديد الطالباني..

‏ثمة خلافات جدية اليوم لا يمكن ردمها في غضون ستين يوماً تقريباً متبقية على الانسحاب الكامل الأمريكي من أفغانستان، وعلى رأسها إصرار واشنطن على تشكيل حكومة مشتركة من طالبان والحكومة الأفغانية. ولكن هذا العرض الأمريكي مرفوض من قبل حلفاء واشنطن في كابول (الحكومة الأفغانية) قبل أن يكون مرفوضاً من حركة طالبان، ما دفع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إلى التهديد المبطن للرئيس الأفغاني في حال لم يلتزم بالإصرار الأمريكي، وردت عليه الأطراف الأفغانية الحكومية بشكل قوي، مما يشكل تحدياً من نوع آخر لواشنطن. فقد كانت عشرين عاماً من التدخل الأمريكي وما أثارته من جبال من الإشكاليات وانعدام الثقة بين الطرفين الأفغانيين عصية وصعبة تسويتها وحلها، فكيف يمكن تسويتها وحلها في غضون ما تبقى من أيام على رحيل القوات الأمريكية؟

‏تدرك واشنطن الخطأ الكبير الذي ارتكبته في أفغانستان يوم رحلت القوات السوفييتية عنها عام 1989، وتركت الأفغان يومها لوحدهم، وهو ما تسبب لها لاحقاً بحدوث واقعة الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ولذلك فهي تصر الآن على حكومة مشتركة (طالبانية- حكومية) يرفضها كلا الطرفين. فالرئيس الأفغاني أشرف غني عبر عن امتعاضه ورفضه لهذا الإصرار الأمريكي كونه سيفقد منصبه، وسيفقد كما يقول شرعية حكومة أفغانية منتخبة عمل عليها الأفغان على مدى سنوات.

‏الرئيس الأفغاني يدرك تماماً أن رفضه هذا قد يكلفه ليس حياته السياسية وإنما حياته الجسدية، فبالتأكيد مثل هذا التنازل عن السلطة إن حصل قد يفقده منصبه، ولكن مع هذا كله فإن طالبان التي رفضت مثل هذا العرض وهي التي كانت أضعف بكثير مما هي عليه اليوم، لن تقبله الآن وقد أرغمت أكبر قوة على الأرض على الحوار معها فانسحبت تحت ضغط ووقع عملياتها العسكرية.

‏روسيا التي سعت سريعاً لحجز مقعد لها في أفغانستان فدعت حركة طالبان إليها واستقبلتها إلى جانب وفد الحكومة الأفغانية الرسمي؛ تدرك أن عليها تنظيف ربما كل ما تبقى أو ما قد يحصل في أفغانستان بعد رحيل القوات الأمريكية، لأنها تشكل الحديقة الخلفية لأمنها القومي في جمهوريات وسط آسيا، إذ لا يخفى مدى النفوذ الروسي فيها. وهناك أيضاً إيران التي تستعد لملء فراغ قد يكون عسكرياً في حال رحيل القوات الأمريكية، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في مقابلة مع تلفزيون "طلوع" الأفغاني، حيث دعا القوات الأفغانية إلى إدماج لواء فاطميون الذي يقاتل في سوريا في صفوف الجيش الأفغاني، وهو ما رفضته حتى الآن كابول..

‏بعض المحللين الأمريكيين يطرح سيناريو آخر؛ يقول إن المعركة العسكرية على الأرض الأفغانية لم تحسم بعد كي يتم التفرغ للمعركة السياسية. ولذا فيرى هؤلاء بأن المعركة القادمة طرفاها حركة طالبان وتنظيم الدولة (داعش)، والتي يتردد بشكل قوي الآن بأن نيودلهي ونكاية بإسلام آباد؛ تقوم بتزويد داعش بالدعم العسكري والمادي من أجل قتال طالبان حليفة باكستان، وهو ما ترتاح له القوات الأمريكية في إنهاك عدوين لدودين لها، خصوصاً وأنه لا أحد يستطيع قتال داعش سوى حركة طالبان الأفغانية، ما دامت المعركة بحاجة إلى قناعة عقدية تفتقره القوات الأفغانية بشكل عام.

‏لكن مسألة داعش في أفغانستان ليست كداعش في العراق وسوريا، إذ إن الظروف الاجتماعية والقبلية والحزبية والسياسية مختلفة تماماً، وبالتالي فإن حركة طالبان التي ترتكز على حاضنة مجتمعية قوية يفتقرها تماماً داعش الذي فشل في التوسع على الساحة الأفغانية كما حصل في الساحتين العراقية والسورية لفترة من الوقت. ويضاف إلى ذلك أنه على مدى التاريخ الأفغاني ولمئات السنين، لم تكن مرجعيات أفغانستان القبلية أو المذهبية سوى أفغانية أو على أبعد المديات من منطقة جنوب آسيا، فكيف ستقبل اليوم بمرجعيات سياسية مذهبية من خارج منطقته؟