قضايا وآراء

الشرق الأوسط المؤدلج المتكيف

1300x600
لا شيء في الشرق الأوسط يوحي بأن جبهات المنطقة المشتعلة، بصراعاتها المزمنة، سائرة باتجاه التهدئة. ذات الأفكار والقيم والمنطق، وحتى الأدوات التشغيلية التي شكّلت غلاف الصراعات القديمة، ما زالت قائمة وقادرة على توليد ديناميات الصراع.

لم ولن تنعكس عمليات التطبيع والحوار الدبلوماسي، ولا محاولات الأطراف تلبس البراغماتية في سلوكها وصنعها للسياسة، على الواقع البائس في هذه المنطقة. وزخم الحراك الدبلوماسي في المنطقة هو اعتراف من أطرافه بأنهم تعبوا واستنزفوا، وأنهم يتفاوضون على استراحة محارب يشحنون خلالها طاقاتهم للحرب القادمة، في لعبة لا تنتهي أبداً.
زخم الحراك الدبلوماسي في المنطقة هو اعتراف من أطرافه بأنهم تعبوا واستنزفوا، وأنهم يتفاوضون على استراحة محارب يشحنون خلالها طاقاتهم للحرب القادمة، في لعبة لا تنتهي أبداً

منذ أكثر من ثلاثين عاماً توصل العرب وإسرائيل إلى سلام في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، لكن هذا السلام لم يكن سوى شكل من أشكال مواصلة الحرب، حيث ضمنت إسرائيل مواصلة قضم الأراضي الفلسطينية بهدوء، ومن دون ضجيج ولا مخاطر مواجهة ثورات فلسطينية متكررة، وذهبت تقديرات خبراء استراتيجيتها إلى أن الفلسطينيين تروضوا وماتت وطنيتهم، وأن الجيل الجديد منهم لم يعد يهتم بالرموز، وأنه آن الأوان لتوجيه الضربة القاضية لفلسطينتهم، عبر ضم القدس وانتزاع اكبر قدر من جغرافيتها، وتحويل الهوية الفلسطينية إلى مجرد فلكلور سائر إلى الزوال.

ومنذ أكثر من عقد، دخلت المنطقة في صراعات بينية، انخرط جميع الأطراف في صراعات طاحنة، إما بشكل مباشر أو من خلال الوكلاء، وكانت هذه الصراعات امتداداً لصراعات قديمة تجدّدت على وقع حراك الربيع العربي، وتشكّلت تحالفات انقسم أفرقاؤها ما بين معاد بشكل صريح للثورات العربية، بذريعة أنها مؤامرة خارجية، وبين من ذهب إلى تأييد طرف بعينه ودعمه وجعله عنواناً أساسيا لتلك الثورات.

في جميع الأحوال، كانت الأيدولوجيا المحرك الأساسي لجميع الحروب والصراعات، ولا يشبه النمط الأيديولوجي المنتشر في الشرق الأوسط، ذلك الذي قامت عليه الحروب في أوروبا، أو بين الغرب والشرق في الحرب الباردة، بل كانت أيديولوجيا منحطّة، قومية دينية مثل تلك التي تتبناها إسرائيل، أو طائفية ضيقة مثل تلك التي ازدهرت في العقدين الأخيرين في سماء المنطقة، أو أيديولوجيا حكم العسكر والطغاة والسلالات، التي انتصبت مؤخراً في وجه محاولات التغيير العربية، والتي جرت تسميتها بـ"الثورات المضادة".

وغالباً، يعكس هذا الانحطاط ذهنية النخب الحاكمة، أو التي استولت على السلطات في المنطقة، والتي حوّلت الصراعات الداخلية والخارجية إلى إحدى أدوات استدامتها في الحكم والسيطرة. حتى في إسرائيل التي تدعي أنها خارج هذا المنطق، تحتاج النخب القيادية فيها إلى استمرار إحساس المجتمع المحكوم من قبلها بالتوتر والقلق، وبوجود عدو متربص ينتظر الفرصة ليدمر سلم ورخاء المجتمع الإسرائيلي. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ادعاء القادة العسكريين، عندما يرغبون باستعراض إنجازاتهم، بأنهم باتوا كياناً آمناً في وسط مستنزف، وفي أحيان كثيرة يصورون للإسرائيليين أن طفلاً من القدس أو صاروخا من غزة قادر على إنهاء الحلم الإسرائيلي إلى الأبد!
ما تشهده المنطقة من حوارات وحراكات ليس سوى محاولات تهدئة آنية، تصب في مصالح النخب الحاكمة، وهي ليست نتيجة أفكار استراتيجية تنشأ عنها ديناميات جديدة من شأنها تغيير الواقع البائس في هذه المنطقة المنكوبة، بقدر ما هي سياسات يراد منها الخروج من مأزق

ما تشهده المنطقة من حوارات وحراكات ليس سوى محاولات تهدئة آنية، تصب في مصالح النخب الحاكمة، وهي ليست نتيجة أفكار استراتيجية تنشأ عنها ديناميات جديدة من شأنها تغيير الواقع البائس في هذه المنطقة المنكوبة، بقدر ما هي سياسات يراد منها الخروج من مأزق هنا أو مطب هناك، أو حفظ الرأس جراء متغيرات البيئة الدولية. فمثلاً، أغلب الفعاليات التي تشهدها المنطقة يرجع سببها إلى وصول إدارة أمريكية لديها أفكار واستراتيجيات مختلفة، وأكثر وضوحاً وشفافية تجاه المنطقة من الإدارة، وحتى الإدارات التي سبقتها، وبالتالي تسعى جميع الأطراف إلى التكيف مع الواقع الجديد والاستعداد لمتغيرات المرحلة.

وغالباً ما تأخذ عمليات التكييف مع الجديد، والاستعداد للاستحقاقات التي يفرضها هذا المستجد، تغييرات في تركيب التحالفات، أو تجميد بعض الصراعات وتسكين الجبهات، وأحياناً المغامرة بشن حروب استباقية لفرض أمر واقع جديد، لذا علينا أن ننتظر معرفة المدى الذي ستصل إليه توجهات إدارة بايدن واستقرار سياساتها، لمعرفة أين سينتهي سيرك الحوارات والتجاذابات والاستقطابات الضارب بقوّة في المنطقة الآن.

غير أن هذه المرحلة تشكل فرصة مهمة لمتابعة مشهد، يكاد يتكرر كل عقد من الزمان، ولدى حصول تغيرات في سلوك وتوجهات المراكز الغربية، وتحديداً الأمريكية، ومعرفة كم هي نخب الشرق الأوسط مثيرة للشفقة والازدراء.

twitter.com/ghazidahman1