صحافة دولية

هيرست: ما فعله قيس سعيّد لا يختلف عن انقلابي مصر وتركيا

لم يكتف قيس سعيد بالاستيلاء على جميع السلطات بل وعين نفسه أيضاً في منصب المدعي العام- جيتي

شدد الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، على وصف ما جرى في تونس بأنه "انقلاب كامل"، لا يقل عن ذلك الذي أطاح بالرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، عام 2013، ومحاولة الانقضاض على حكم حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان، في تركيا، عام 2016.

 

واستهل هيرست مقاله على موقع "ميدل إيست آي" بتسليط الضوء على وثيقة نشرها في أيار/ مايو الماضي، تحدثت عن الخطة التي نفذها الرئيس التونسي، قيس سعيد، بحذافيرها، منذ مساء الأحد، بانقلابه على الحكومة والبرلمان، بل وأضاف إليها الاستيلاء على السلطة القضائية كذلك.

 

واعتبر هيرست أن "فن المساومة محرم في عرف سعيد، وهو الذي جاء من خارج الوسط السياسي، ولا يوجد من ورائه حزب"، على النقيض من سلفه الراحل، الباجي قايد السبسي، الذي تجنب إدخال البلاد في نفق مظلم، رغم عدائه مع الإسلاميين وقطاع واسع من الثوريين في تونس.

 

ولفت المقال، الذي ترجمته "عربي21"، إلى نقطة محورية في مسار الأحداث التي سبقت انقلاب قيس سعيد، إذ "كان لديه دافع واحد من إحباط المحاولات المتكررة لترشيح شخصيات لشغل المناصب في المحكمة الدستورية.. وهذا الحافز هو إعاقة تشكل كيان لديه صلاحية الاعتراض على تحركاته واعتبارها غير دستورية".

 

 

وتاليا نص مقال "هيرست" كما ترجمته "عربي21":

 

هذه المرة، كنت أتمنى لو أنني كنت مخطئاً، كنت أتمنى لو أن الوثيقة التي نشرتها في أيار/ مايو، وتحتوي على تفاصيل خطة قيس سعيد للاستيلاء على تونس، وتقويض الدستور، وإغلاق البرلمان، كانت ملفقة.
 
حينها سخر البعض مني بسببها، وقيل لي إنه لا يوجد شيء من ذلك، وإن الوثيقة كانت من صنع معارفي من الإسلاميين، والحقيقة أن مصدر الوثيقة كان علمانياً، ومن داخل الرئاسة نفسها.
 
لم تكن الوثيقة مجرد رسالة عابرة صدف أن وجدت طريقها دون قصد إلى صندوق البريد الرئاسي، كما زعم قيس سعيد نفسه بعد أربعة أيام، حينما أجبر على الاعتراف بأنها كانت وثيقة صحيحة.
 
لقد كانت خطة راسخة وضعها أقرب مستشاريه إليه.
 
صرحت الوثيقة التي كشف عنها موقع ميدل إيست آي بأنه بعد أن يتم استدراج كل من رئيس الوزراء هشام مشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى القصر، ويحتجزان داخله، سوف يتم تعيين جنرال، هو خالد اليحياوي، قائماً بأعمال وزير الداخلية.
 
وذلك بالضبط هو الذي حصل صباح الاثنين، حيث تم تعيين اليحياوي ليقود عملية القمع والقهر التي يتعرض لها الآن السياسيون والإعلاميون في تونس.
 
لم يكتف قيس سعيد بالاستيلاء على جميع السلطات، بل وعين نفسه أيضاً في منصب المدعي العام.
 
ويجري توصيف إجراءات سعيد باعتبارها رد فعل على الدمار الذي ألحقته الجائحة بالبلاد. ولكن في الفترة التي تم فيها تسريب الوثيقة، لم يكن الفيروس قد تمكن من تونس وعاث فيها فساداً.
 
في إدارة قيس سعيد كان وزير الصحة عبد اللطيف مكي، وهو نفسه طبيب، عضواً في حزب النهضة، وكان قراره توزيع الكمامات على الناس في الشوارع قد حاز على إشادة عالمية، باعتباره نموذجاً كان ينبغي أن يحتذى في بقية العالم العربي.
 
لم يكن لانقلاب الأحد أدنى علاقة بالفيروس، بل كان قد خطط له في وقت كان فيه الفيروس تحت السيطرة.
 
أحد أنصار سعيد، سامية عبو من التيار الديمقراطي، رحبت بتحركات سعيد، وقالت يوم الأحد إن "قرارات الرئيس دستورية وتاريخية، وكان ينبغي على الرئيس اتخاذ تلك القرارات قبل وقت مضى".
 
انقلاب بكل ما تعني الكلمة من معنى
 
كانت الوثيقة، التي ختم عليها بعبارة "سري للغاية"، قد وصفت الخطة بأنها "انقلاب دستوري"، إلا أن ما جرى ليلة الأحد تجاوز صفة الدستورية بمراحل.
 
ينص الدستور على أنه حينما يتم تفعيل الفصل الذي يسمح للرئيس بأن يحوز على سلطات استثنائية، فإنه يتوجب على البرلمان أن يظل في حالة انعقاد، وأنه لا يمكن حله، ولكن في الحقيقة أقدم سعيد على تعليق البرلمان، وحال دون وصول أعضائه إليه.
 
يتوقف تفعيل الفصل 80 على المحكمة الدستورية، التي حال سعيد دون تمكين البرلمان من تشكيلها، حتى وإن كان بموجب الدستور يختار أربعة فقط من أعضائها الاثني عشر.
 
عياض بن عاشور واحد من أبرز أستاذة القانون الدستوري في تونس، وكان قد لعب دوراً محورياً في صياغة الوثيقة الانتقالية والدستور وقانون الانتخابات، وكان رئيس الكيان الذي أدار الفترة الانتقالية في عام 2011، وهو رجل علماني، وليس من أنصار الإسلاميين، ومع ذلك يرى بن عاشور أن هذا انقلاب "بأتم معنى الكلمة".
 
وكذلك هو حال نبيل بفون، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، الذي قال إن الهيئة في حالة من الصدمة".
 
جميع المؤسسات التي أقيمت بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكل ما أوجدته ثورة 2011 من أجل وضع تونس على طريق الديمقراطية، أعربت عن معارضتها لإجراءات سعيد، بغض النظر عن ميولها السياسي.
 
إذن، لا يوجد ما هو دستوري بشأن هذا الانقلاب، هذا انقلاب بكل ما تعنيه الكلمة، ولا يختلف في شيء عن ذلك الذي أطاح بمحمد مرسي في مصر في عام 2013، وكذلك الذي سعى للإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا في عام 2016.

جميع الأحزاب في تونس تقريباً تعارضه، من اليسار إلى اليمين، ومن العلماني إلى اليساري – النهضة والكرامة وقلب تونس والجمهوري، وحتى التيار الديمقراطي الذي تنتمي إليه عبو.
 
حتى لحظة كتابة هذا المقال، كان حزب واحد فقط، حزب الشعب، هو الذي يؤيد إجراءات سعيد، وليس صعباً معرفة السبب؛ ففي العالم العربي من يقبض على السلطة بأسرها لا يتنازل عن شيء منها.

 

اقرأ أيضا: قرارات جديدة لسعيد.. منع التظاهر وتعطيل عمل الإدارات العامة
 
لم يخف سعيد رغبته في تغيير النظام السياسي في تونس. كان المشيشي، رئيس الوزراء الذي اصطدم معه، قد عينه سعيد وصادق عليه البرلمان، إلا أن الخلافات بين الرجلين ما لبثت أن ازدادت اتساعاً عندما رفض سعيد التصديق على الوزراء الذين عينهم المشيشي.
 
لم يكن الصدام بين الرئيس ورئيس الوزراء متعلقاً بخلاف أيديولوجي؛ فلم يكن أي من الوزراء سياسياً، ولم يكن للنهضة يد في اختيار أي منهم، كان يفترض فيها أن تكون حكومة تكنوقراط.
 
كان الخلاف حول السلطة التي كان سعيد يريدها بأسرها.
 
من حالم إلى دكتاتور
 
في النهاية، كان أستاذاً جامعياً متمرداً مثل سعيد لا سياسياً هرماً من النظام القديم مثل الباجي قايد السبسي الذي ابتليت به التجربة التونسية مع الديمقراطية.
 
يذكر للسبسي الفضل في أنه قاوم إغراء المال الذي عرضته عليه أبوظبي حتى يتخلص من النهضة.
 
اختار بدلاً من ذلك فن المساومة السياسية، ونجم عن ذلك تفتت حزبه، لكن تونس ظلت صامدة. مثل هذا الفن محرم في عرف سعيد، وهو الذي جاء من خارج الوسط السياسي، ولا يوجد من ورائه حزب، وإن كانت النهضة قد ساندته باعتباره الخيار الأقل سوءاً من بين جميع المرشحين الرئاسيين، ولكونه من النمط الذي ينمي أفكاراً خاصة به.

كان نضال مكي طالباً عنده، وقد وصف سعيد بأنه حالم يسعى نحو تغيير تحولي كرئيس، وكان نضال قد صرح لموقع ميدل إيست آي في عام 2019 بما يلي: "توجد لدى السيد سعيد بعض التحفظات بشأن الديمقراطية التمثيلية على الشكل الذي يتم من خلاله تنفيذها وممارستها في تونس؛ فهو ليس ضدها بشكل قطعي، وإنما يود لو أنه يتمكن من تصحيحها من خلال حقن جرعة من الديمقراطية المباشرة".
 
لقد أثبت الرئيس التونسي أنه مصدر عدم الاستقرار السياسي، فقد حكم وهو يتأرجح بين التهديد والترطيب جيئة وذهاباً، فقد زعم في شهر أبريل/ نيسان أنه القائد الأعلى للجيش ولأجهزة الأمن الداخلي في البلاد، بينما يضع الدستور القوات الداخلية تحت إمرة رئيس الوزراء.
 
وفي شهر يونيو/ حزيران، أعاد وحده كتابة التاريخ التونسي، من خلال التصريح بأن فرنسا ليس لديها ما تعتذر عنه أثناء حكمها الاستعماري للبلاد. وأعلن سعيد أن تونس كانت تحت الحماية الفرنسية وليس الحكم الاستعماري. إذا ما أخذنا بالاعتبار كم من التونسيين تعرضوا للاغتيال أو للاغتصاب تحت الحكم الاستعماري منذ عام 1881، تبدو تصريحاته تلك غاية في العجرفة.
 
إلا أن كل تلك المواقف العديدة كانت في اتجاه واحد؛ لقد كان لديه دافع واحد من إحباط المحاولات المتكررة لترشيح شخصيات لشغل المناصب في المحكمة الدستورية، على الرغم من أن أربعة منهم يتم اختيارهم من قبل الرئاسة، وأربعة من قبل البرلمان، وأربعة من قبل الجهاز القضائي، وهذا الحافز هو إعاقة تشكل كيان لديه صلاحية الاعتراض على تحركاته واعتبارها غير دستورية.

بوصفه أستاذاً في القانون، كان المرء يتوقع من مثله أن يرسخ مبدأ الفصل بين السلطات، إلا أن سعيدا لا يعترف بأخطائه، ولا يتحمل المسؤولية عن معاناة التونسيين.

إن الفوضى التي تضرب الحكومة هي الفوضى التي يصنعها بيديه، كما أدركت تونس سريعاً حينما عطل البرلمان واعتقل المعارضين السياسيين.
 
في لحظة تعلن الرئاسة أنها تلقت ألف جرعة من المطعوم من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتنتشر إشاعات بأن عدداً من أعضاء البرلمان ومن المسؤولين قد أخذوا اللقاح، وفي لحظة ثانية تنكر الرئاسة أي علم لها بتلك "الهدية".
 
الرجل الأخير الذي لا يزال واقفا
 
على مدى العشرة أعوام الماضية، ما فتئت تونس تنتقل من أزمة سياسية إلى أخرى، ولكنه بشكل أو بآخر تمكنت من النجاة، فاستحقت لقب رجل الربيع العربي الأخير الذي ما زال واقفاً.
 
لم تكن النهضة مثل الإخوان المسلمين في مصر؛ فقد ساومت وتنازلت تطوعاً عن السلطة، وأبرمت صفقات لشق المعارضة، لكنها في نفس الوقت لم تتمكن من إحداث التغيير الاقتصادي الذي كان البلد في أمس الحاجة إليه. بالنسبة للإنسان التونسي العادي، وخاصة بالنسبة للشباب، كانت الأمور تتجه من سيئ إلى أسوأ.
 
معظم ذلك الوقت لم تكن النهضة مسيطرة، لا على البلد ولا على الحكومة، بل كانت تقاتل من أجل تشكيل المؤسسات مثل البرلمان ومثل المحكمة الدستورية، والتي كانت ستعزز الديمقراطية في تونس.
 
فيما لو كانت التجربة التونسية مع الديمقراطية فعلاً في نهايتها، فذلك يعني أن التونسيين سيقبلون بحجة الطغاة في سائر أرجاء العالم العربي، ومفادها أنهم ليسوا جاهزين للديمقراطية، وأنهم لا يناسبهم سوى العيش في كنف الطغاة البشعين.
 
لا أعتقد أن الربيع العربي قد مات، ولا أعتقد أيضاً أن الشعب التونسي على استعداد للعودة إلى حكم الرجل الواحد. وستثبت الأيام القادمة ما إذا كنت، تارة أخرى، على صواب.