كتاب عربي 21

طالبان كحركة تحرر وطني!

1300x600
في زمن الردة والبهتان، صار المرء مطالباً بالحديث عن بديهيات، هي من المسلمات بطبيعتها!

فلم تكد حركة طالبان تحقق نصراً كبيراً، هو رسالة عزة لكل المستضعفين في الأرض، حتى وجدها البعض فرصة للتفتيش في الدفاتر القديمة لهذه الحركة، ود لو استقامت على طريقته، وتماهت مع أفكاره. ولم يكن المرجفون في المدينة من تيار واحد!

فمن انتحلوا صفة القوى المدنية، انطلقوا من هجومهم على الحركة والتشكيك فيها من حيث الاستقطاب الذي يعيشه العالم العربي منذ تداعيات الربيع العربي، لدرجة أنهم انحازوا لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا، على نحو يؤكد زيف الادعاء بأنهم من دعاة الدولة المدنية، وهم ينحازون لانقلاب عسكري على حكم مدني منتخب!

وعند الحديث عن التيارات المدنية، فإنني أتجنب بطبيعة الحال الأقلية الناصرية المارقة؛ ذلك بأن الناصريين لم يكونوا في يوم من الأيام على شيء، ليس لأنهم جزء من مشروع الانقلابات العسكرية، فلم يكن عبد الناصر رئيساً مدنياً منتخباً، ولكن لأنهم فاقدون للبوصلة والهدف، وحتى المنطلقات البسيطة القديمة مثل العداء للهيمنة الغربية وما إلى ذلك، لم تعد تحكم مواقفهم أو تضبط منطلقاتهم!

وإذا استبعدنا الناصريين، يطل نفر من الإسلاميين برؤوسهم، وقد وجدوا لديهم فائضاً من النكد، لا يتوقفون عن سكبه، وبينما الانتصارات تتحقق في أفغانستان إذا بهم يطالبون الحركة بتقديم مراجعات لأفكارها الدينية، وهم قوم يتشاءمون دائماً، ولا قدرة لديهم على التفاؤل، لهذا يعز عليهم النظر إلى نصف الكوب الملآن!

تقاليد القبائل:

النصف الملآن أن طالبان هي حركة تحرر وطني، صُب عليها العذاب صباً ومع ذلك ظلت واقفة، ترفض التسليم، وترفض وجود المحتل على أراضيها، ومهما قيل في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر فلم تكن الحركة طرفاً فيها، وغاية ما في الأمر أنها اتهمت بإيواء من قاموا بها. وقد طلبت الولايات المتحدة الأمريكية منها تسليم ابن لادن، ولكن لأنهم أهل عزة كون السواد الأعظم من الحركة من قبائل البشتون، فقد رأوا أن الأصول تمنع تسليم من استجار بهم، وهو موقف يحسب لهم عند أهل النجدة الذين تربوا على التقاليد الأصيلة، ولم يلبسوها بظلم!
طوردت حركة طالبان، وضربت الولايات المتحدة جبال تورا بورا بأطنان من القنابل المحرمة، وعملت على بناء دولة عميلة تدين لها بالولاء، واصطنعت لها حكومة وفق مقاييس العمالة، وأسست جيشاً قوياً أنفقت عليه المليارات ومدته بالأسلحة المتطورة، لكن الحركة التي أسقط حكمها بقرار من الخارج الأمريكي؛ استمرت في المواجهة

وكان واضحاً أن "مجنون واشنطن" يبحث عن ذريعة للقيام بغزو أفغانستان، كما فعل مع العراق رغم قبوله بقرار التفتيش، ورغم إعلان المحققين عن عدم وجود أسلحة ممنوعة في بغداد. والقصد أن هذا "المجنون" الخارج على القانون الدولي، كان ينتظر تسليمه ابن لادن، أيضا يقوم بغزو أفغانستان!

وقد طوردت حركة طالبان، وضربت الولايات المتحدة جبال تورا بورا بأطنان من القنابل المحرمة، وعملت على بناء دولة عميلة تدين لها بالولاء، واصطنعت لها حكومة وفق مقاييس العمالة، وأسست جيشاً قوياً أنفقت عليه المليارات ومدته بالأسلحة المتطورة، لكن الحركة التي أسقط حكمها بقرار من الخارج الأمريكي؛ استمرت في المواجهة، ولم ترفع الراية البيضاء لهذا العدوان، والإجرام الذي لا تُخطئه عين!

وقاومت الحركة الوجود الأمريكي، وللدقة الاحتلال الغاشم، الذي وجد من سكان البلد من يتعاون معه، حتى صار هؤلاء العملاء عبئاً ثقيلاً على الإدارة الأمريكية. وإذا كانت أمريكا لا تريد أن تقدم رسالة سلبية للعملاء في أماكن أخرى لتركهم لمصيرهم، فإنها لا تريد حملهم جميعا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن قضى الأمريكان منهم وطراً، وتريد لتركيا أن تستقبلهم على أراضيها وتوفر لهم الأمان!

كنا نضرب المثل ببساطة المقاتل الأفغاني الذي يدافع عن تراب بلده، ولم نكن ندرك أنه قادر على أن ينتصر في المعركة، لكن فاتنا أن النصر هو صبر ساعة، حتى وصل الحال إلى أن تفتح طالبان العاصمة الأفغانية وتدخل القصر الرئاسي، بدون إراقة دماء، فالجيش الذي أنشأته واشنطن وفق المعايير الدولية بلغ فراراً، قبل أن يفر الرئيس الأفغاني (المعين) بقرار من البيت الأبيض!
سبق هذا حرب استنزاف طويلة، هي التي دفعت بالإدارة الأمريكية السابقة للتفكير في الهروب من هذه الأرض الوعرة، ومن الأفغان الذين أسقطوا إمبراطورية الاتحاد السوفييتي في السابق. وفي المقابل فإن المقاتلين الأفغان ليس لديهم ما يخسرونه، وفي النهاية كان لا بد من المفاوضات

لقد سبق هذا حرب استنزاف طويلة، هي التي دفعت بالإدارة الأمريكية السابقة للتفكير في الهروب من هذه الأرض الوعرة، ومن الأفغان الذين أسقطوا إمبراطورية الاتحاد السوفييتي في السابق. وفي المقابل فإن المقاتلين الأفغان ليس لديهم ما يخسرونه، وفي النهاية كان لا بد من المفاوضات.

مئات المعتقلين في السجون الأفغانية، وآلاف المقاتلين الذين قدمتهم الحركة في معركة الاستقلال الوطني، وكان للصمود عامل مهم، ولهذا فعندما رضخت واشنطن لم تكن يد طالبان هي السفلى!

لقد طالبت واشنطن بوفد من طالبان للمفاوضات، وكان الرد: لديكم الأسرى في جوانتامو هم من يمثلون الحركة، فتم الإفراج عنهم. وأرادت واشنطن أن تمارس القوة على الحركة، بأن طلبت نقل مكان المفاوضات إلى "أبو ظبي"، عاصمة الخراب العربي، ومن الواضح أن المال الإماراتي الذي تبين أنه كان يدير البيت الأبيض في عهد ترامب، فشل في أن يسحب هذا النصر من قطر، فالحركة أصرت على أن تكون المفاوضات في الدوحة، وبدا أنها ليست مستعدة لتقديم تنازلات في هذا الصدد!

ومرة أخرى يعود المفاوض الأمريكي راضخاً، وتستأنف المفاوضات، وبينما وفد الحركة يتفاوض لم تتوقف العمليات، مما حذا بالجانب الأمريكي إلى وقف التفاوض من باب التهديد، لكن بدت طالبان وكأنها ليست في لهفة لهذه المفاوضات، ومرة أخرى يتم استئنافها دون تقديم الحركة تنازلات في هذا الصدد!

ولو كان هذا الصمود في مواجهة الصلف الأمريكي قام به غير مسلمين لنظرت إليه التيارات المدنية في المنطقة بعين الإكبار، إكبارهم لانتصار أهل فيتنام، أما وأن من انتصر ينتمي للمنطقة فلا بد من استدعاء الخلافات الأيديولوجية، لم تكن أبداً لتُستدعى من قبل. فالصمود كان في السابق وفي دول أمريكا اللاتينية من اليسار، ولم يكن الذين أيدوه جميعا من اليسار ولم يستدعِ أحد الأفكار اليسارية التي يعتنقها هؤلاء لتحول بينه وبين الانتصار لهم بالقول!
حركة طالبان في فترة توليها الحكم قدمت نموذجاً سلبياً، من حيث أفكارها الدينية، ومن حيث بعدها عن الإسلام الحضاري، ورأينا هذا واضحاً في الموقف من تماثيل بوذا، وقرارها بهدمها من منطلقات دينية، وثارت ثائرة الغرب الذي يقدم نفسه أنه أساس الحضارة وممثل الاستنارة

تماثيل بوذا:

إن حركة طالبان في فترة توليها الحكم قدمت نموذجاً سلبياً، من حيث أفكارها الدينية، ومن حيث بعدها عن الإسلام الحضاري، ورأينا هذا واضحاً في الموقف من تماثيل بوذا، وقرارها بهدمها من منطلقات دينية، وثارت ثائرة الغرب الذي يقدم نفسه أنه أساس الحضارة وممثل الاستنارة، وقد أقدمت الحركة على فعلتها فهدمت التماثيل، ولم تقبل حتى وساطة علماء كبار، مثل الشيخ يوسف القرضاوي!

ومع إدانتي الكاملة لهذا الموقف من طالبان، فلعل السؤال الآن: هل كان التدخل الغربي فعلا دفاعاً عن الحضارة الإنسانية وهو مبدأ عظيم؟!

إن الغزو الأمريكي للعراق استباح المتحف الوطني هناك، وترك الآثار العراقية التاريخية نهباً للصوص في الداخل والخارج، ونقلت هذه الآثار في حماية الغزو إلى خارج العراق، دون استنكار ممن عز عليهم قيام طالبان بهدم تماثيل بوذا، ممن يسيرون في ركاب الغرب وتعشش الهزيمة في قلوبهم.

لقد كان العراق دولة، لكن الغزو الأمريكي انتقل به إلى مرحلة ما قبل الدولة، واستدعى القبائل بديلاً لمؤسساتها، وأسس حكم المحاصصة، ولم يهتم ببناء دولة حديثة في العراق، أو في أفغانستان. ولم يجد ذيوله في المنطقة ما يستحق المؤاخذة، أو يدعو للتنديد بهذه الرجعية، والعودة بكل الدول التي وضعت واشنطن يدها عليها إلى عصر ما قبل الدولة!

لست مطلعاً على المرجعية الفكرية لحركة طالبان، للوقوف على التطور الذي حدث لها بعد كل هذه السنوات، فقد بدت الحركة بعيدة عن العين، حتى بالنسبة للفضائيات التي اهتمت بمعالجة الأمر بحسب الظاهر من الأحداث، ورأينا كيف تتم الاستعانة بغير المتخصصين في الشأن الأفغاني للحديث فيه، فكانوا في ردودهم على أسئلة المذيعين تسري عليهم مقولة لا أجهل من السائل إلا المسؤول!

وعموماً أرى أن هذا التخوف من الأفكار الرجعية لطالبان هو استدعاء لما لا ينبغي، لأنه يغطي على هذه الانتصارات، وهو ليس موضوعنا الآن، وإن كان البعض يفعل هذا بحسن نية، فغيرهم هم أصحاب النوايا السيئة!
الدولة التي فرضها الاحتلال الأمريكي لم تكن أبداً دولة عصرية، ولم يسمح فيها للشعب باختيار من يحكمه، ولم تسمح بحرية الصحافة وتداول المعلومات، وكانت بحسب منظمة الشفافية دولة فساد كبرى، والسكوت على هذه الدولة يسحب صفة الموضوعية ممن نفروا خفافاً وثقالاً ضد رجعية طالبان الآن!

لا بأس، فطالبان لن تقيم دولة الحداثة، ولا يوجد من بين قادتها فنان تشكيلي، وآخر موسيقار، ولن يسمحوا بطبيعة الحال بحرية للمثليين، وهو موضوع الساعة الذي يستخدمه غلمان الحركة المدنية خطاً للفرز والتجنيب، لمعرفة الأنصار الحقيقيين للحريات، وهو ما يكشف أنهم يعيشون حالة ضياع فكري تستدعي إعادتهم مرة أخرى إلى الحظائر التي قدموا منها، فانتماء هؤلاء لليبرالية ليس أصيلاً، وقد صارت صفة من لا صفة له!

وهذا ليس موضوعنا، فقادة طالبان هم أبناء بيئتهم، ولا يوجد من بينهم من يسمح لزوجته بارتداء البكيني، ولا ينتظر منهم بناء دولة عصرية، لكن هل صحيح أن هذا الرفض مبعثه هذا؟!

إن الدولة التي فرضها الاحتلال الأمريكي لم تكن أبداً دولة عصرية، ولم يسمح فيها للشعب باختيار من يحكمه، ولم تسمح بحرية الصحافة وتداول المعلومات، وكانت بحسب منظمة الشفافية دولة فساد كبرى، والسكوت على هذه الدولة يسحب صفة الموضوعية ممن نفروا خفافاً وثقالاً ضد رجعية طالبان الآن!

انظروا إلى طالبان كحركة تحرر وطني يستوي لك الصف!

twitter.com/selimazouz1