قضايا وآراء

حينَ يعقُّ الآباءُ والأمَّهاتُ أبناءَهُم!

1300x600
وهل يفعلون؟! قد يبدو السؤال غريباً ومُستَهجناً، لكنَّ نظرةً عميقة إلى الواقع تَجلي صفحاتٍ سوداء في الأُسَرِ التي تكتوي بنيران العقوق المعاكس، وهنا يتبادرُ إلى الذّهن سؤالٌ يقرعُ النّفسَ قرعاً: هل يعني اشتراكنا بتجربة الإنجاب أنّنا نحمل القَدْرَ نفسَه من المشاعر والأفكار حول هذا الأمر؟ وهل يعني بالضَّرورة أنَّنا سنتعامل بالأسلوب نفسِه مع أبنائنا؟

بالتأكيد لا؛ فاتّحاد المعنى في حقيقته لا يعني بالضّرورة تطابقنا في التّعامل معه وإنْ كان مُستمدّا من عقيدتنا ومفاهيمنا الدّينية! والواقع خير برهانٍ على ذلك، فكثيرٌ من الأُمّهات والآباء يختلفون في نظراتهم نحو الأمومة والأُبوّة، ويفترقون فروقاً شاسعة في مفاهيمهم وأساليبهم في تعاملهم مع أبنائهم.

بيوتٌ تمورُ بالعقوق المعاكسِ مَوراً

للعُقوقِ وجهان أساسيّان تنضوي تحتهما كثيرٌ من الصّور والحكايا، لكنَّنا اعتدنا حين يُذكر العقوق أمامنا أن نفهم أنّه موجَّه من الأبناء نحو الآباء، ولا يخطر في بالنا أن نستجلب الصور المضادّة، لكن إذا ما جال النظر في واقعنا البائس سيُطالِعنا بكثيرٍ من الوقائع التي يدفعُ فيها كثيرٌ من الآباء أبناءهم دفعاً نحو عُقوقهم، وسنرى كثيراً من الأُمهات اللواتي يجعلن الإحسان إليهنّ عبئاً ثقيلاً، فترتدّ إلينا أبصارنا خائبة حسيرة.

من أبشع صور عقوق الآباء والأمهات لأبنائهم التّفريق بينهم في المعاملة، كالتفريق بين اثنين من الأبناء الذّكور، أو التفريق بين الذّكور والإناث، والولوغ في الظلم، ثم المطالبة بالبِرّ! كيف يستقيم هذا عند ذوي الألباب والنُّهى؟!

جاء الصّحابي بشير بن سعدٍ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يريدُ أن يسأله على إعطائه أرضاً لولده النّعمان بن بشير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك ولد سواه؟ قال: نعم، قال فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ فقال بشير بن سعد: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلا تُشهدني إذن فإنّي لا أشهد على جور، ثم سأله: أليسَ يسرُّكَ أن يَكونوا لَكَ في البِرِّ سواءً؟ فقال بشير: بلى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلا إذن.

ولا ينحصر عقوق التفريق في المعاملة في الماديّات فحسب، بل هو في الأمور المعنويّة والعاطفية أبشع وأقسى، فكم يبدو فَجّاً وقاسياً لو أنّ أحد الأبناء بذل وسعه في برّ أمّه أو أبيه ثمّ لم يلقَ منهما كلمة ثناءٍ أو تقدير، ثمّ تلفّت ليجدَ عبارات الثناء والرضا تنهال على أخيه أو أخته ممّن فعل كفعله أو أقلّ! وقد جاء في مصنّف أبي شيبة ينقل حال الذين تربّوا في مدرسة اللطف النبويّ؛ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عن إبراهيم: "كانوا يستحبُّون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَل".

وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله يضمُّ ابناً له وكان يحبُّه، فقال: "يا فلان، والله إني لأحبك وما أستطيع أن أوثرك على أخيك بلقمة".

ومن أبشع صور عقوق الآباء والأمهات لأبنائهم؛ الاستبدادُ بالرّأي تحت ستار وجوب برّ الأبناء بآبائهم، وقد يكون الاستبداد بالرّأي مرهقاً للأبناء كاسراً لخواطرهم مستنزفاً لطاقاتهم، وقد يصل الأمر إلى التحكم في قرارات مصيريّة تتعلق بهم؛ فقد جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه أن والدها أراد أن يزوّجها قريباً لها ليرفع بها خسيسته (أي قَدْرَه)، فردّ الرسول صلى الله عليه وسلم الزّواج، فلمّا رأت الفتاة أنّ الأمر لها، قالت: يا رسول الله، قد أجزتُ ما أجاز أبي، غير أنّي أحببتُ أن أُعلِم مَنْ ورائي من النّساء أن ليس للآباء في هذا الأمر شيء.

ومثل الإجبار على الزواج؛ إجبار الابن أو البنت على اتخاذ أيّة قرارات مصيريّة تتعلّق بهم كدخول فرعٍ دراسيّ معيّن أو اختيار مهنةٍ محدّدة أو اختيار موطن للإقامة، أو غير ذلك من القرارات الخاصّة.

ومن صور العقوق البالغة أن يطلب الآباءُ والأُمهاتُ من أبنائِهم أن يبرّوهم ويسارعوا في تحقيق رغباتهم وقد أهملوا من قبل تربيتهم وزرع القيم الأصيلة فيهم! فكيف يحصدُ مَن لم يَغرس؟ وكيف يفوز مَن لم يُعِدّ؟

جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق ابنه فأحضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الابن وأنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب "القرآن".

فقال الابن: يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئاً من ذلك: أما أمي فإنها مملوكةٌ كانت لمجوسي، وقد سماني جعلاً "أي خنفساء"، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً.

فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل، وقال له: أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عقَقتَه قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.

أَمِن فراغٍ وصلت إلينا هذه المعاني؟!

ألا ينبغي أن يعي الإنسان مَرَدَّ الإحسان صعوداً نحو الآباء، وهبوطاً نحو الأبناء؟ ألا يُكلّفُ بعضُ الآباء أبناءهم ما لا يُطيقونه من واجباتٍ مادّية ومعنوية؟ ألا ينتظر الأولاد من أهاليهم أن يتغافلوا عن زلّاتهم قليلاً، وأن يشكروا إحسانهم ولو بكلمة تُغدق على الرّوح رضا وثباتاً؟

ألا يدفع بعض الآباء والأمهات أولادهم دفعاً نحو العقوق أو البُعدِ أو الرغبة بالاستقلال بعيداً عنهم وخروجاً عن سيطرتهم وتحكّمهم بخياراتهم وحياتهم؟

البِرُّ اختبارٌ واختيار، فأعينوهم عليه واجعلوه حبيباً للقلوب خفيفاً على النفوس.

برّوا آباءكم ليرعاكم أبناؤكم!

تبدو معادلة لطيفة وعادلة، لكنّها لا تتحقّق في الحياة كما لو أنّها معادلة رياضيّة منطقية، لا بُدّ أن تصل إلى النتائج المتوقعة انطلاقاً من الفرضيات السليمة والصحيحة..

الحياة أوسع من ذلك بكثير، وقانون الاحتمالات وحده ما يُعوّل عليه في العلاقات الإنسانية، وإنْ كنّا نتحدّث - فَرَضاً ومَنطقاً - عن أطهرها.

كثيرٌ من الأبناء الذين أغدق عليهم آباؤهم عاطفة وبَذلاً، نسوا أو تناسَوا، وابتعدوا وغابوا، وضاقوا ذرعاً، وكأنَّهم ما كانوا يوماً! والسببُ الرئيسُ لذلك - وليس الوحيد - هو عدم تفرقة الآباء بين التّربية والرّعاية؛ فمعظم النّاسِ قادرون على رعاية الأبناء وتأمين الحاجات الأساسيّة لهم، وقادرون على تأمين الرعاية البدنية من مأكل وملبس ومأوى، لكن الأبناء بحاجة إلى جانب ذلك إلى ما هو أغلى وأبْقى؛ إنهم بحاجة إلى التربية بالحب وإشباع العاطفة ومخاطبة العقل وتغذية الرّوح، إنهم بحاجة إلى أوقاتنا وعطفنا وحبّنا ومحادثتنا ومشاركتنا ومحاورتنا ورؤيتنا النموذجَ الذي نريد منهم أن يحتذوا به أو يحاكوه قدرَ المستطاع، بل يتجاوزوه نحو ما هو أفضل وأرقى.

ما سيُردّ إلينا هو كل ما نقدّمه لهم على طبق التّربية بالحبِّ والمِثال..

الكلام أسهل بكثير من الواقع العمليّ، وقد يعتري تطبيقه كثيرٌ من الشوائب التي ترتد على الآباء سلباً!

الأبناءُ ليسوا تجارة نتحكّم بطقوسها ونتائجها! أبناؤنا غراسٌ نرجو بإخلاص العمل والنيّاتِ أن نُؤجرَ عليها بجعلها امتداداً للخِلافة الحقّ في حياتنا الدّنيا.

والآباءُ مِنحٌ حين يُعينونَ أولادهم على بِرّهم، ومِحنٌ حين يجعلون البِرَّ ثِقلاً وواجباً يُؤدَّى كرامةً لمعروفٍ كان حقّاً للأبناء، وامتثالاً لحسٍّ إنساني ودافع عقدي.

سلاح الغضب والرضا

حين يُسرِفُ الوالدان في التذرّع بالرضا والغضب، بالحقِّ الإلهي ناسين أنه حقٌّ مقدَّس مسبوق بعطاء لا حدود له، مسبوق بهبةٍ ومعجزة لا أفق يحتويها إلا قلبٌ ذاق فعرف، وحين يقسو قلبُ أحدهما تعنّتاً وفي غير وجه حقّ، يغدو البِرُّ ثقيلاً، ومحض واجبٍ يُؤدَّى بدمعِ الروح المهدور على أعتابٍ كان ينبغي أن تكون نعمة، لكنها جعلت من نفسها بلاء!

على أنّ استخدام سيف الغضب أسلوبٌ يعكسُ الأنانيّة والذّاتيّة، لا سيما في القضايا التي تعدّ من خصوصيّات الأبناء التي ينبغي أن يكون واجب الوالدين فيها النّصح والتّلطّف في بذل هذا النّصح، وإلَّا فإن هذا الأسلوب يُعدُّ وصفةً ناجعةً لدفعِ الأبناء نحو التّمرّد من جهة والعقوق - في أحيانٍ كثيرة - من جهة ثانية، وفي المحصّلة نرى عقوقاً من الآباء والأمهات كان الدافع والمحرِّضَ على عقوق الأبناء والبنات.

لذا لا بدَّ من التفريق بين مفهوميّ "البرّ" و"الطاعة" في التعامل مع الآباء والأمهات، فالبرّ مطلوبٌ في الحالات كلّها، حتّى لو كان الأبوان كافرين، لكنّ الطاعة ليست واجبةً على الدّوام، وقد بيّن النصّ القرآنيّ وجه الفرق بينهما في قوله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (لقمان: 14-15).

وقد جاء في الأثرِ أنَّ معاوية بن أبي سفيان غضب مرة من ابنه يزيد، فأرسل إلى الأحنف بن قيس وسأله عن رأيه في البنين، فقال له الأحنف: "هم ثمارُ قلوبنا، وعمادُ ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلة، وسماءٌ ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحوك ودَّهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك، ويتمنوا وفاتك".

أعينوا أبناءكم على برّكم فالبرُّ في بعض أشكاله جهادٌ للنفس، أعينوهم بكلمة طيبة، وهمسة حانية، ولهفة حبٍّ صادقة.