قضايا وآراء

حدود الإبداع الأدبي في الفن الإسلامي المعاصر

1300x600
وقفت الحركة الإسلامية فترة طويلة على أعتاب الفن المعاصر؛ موقف المستنكر والمراقب بحذر شديد بين الحل والتحريم، ووضع مواصفات خاصة للفن القابل للمشاهدة والمتابعة. ومرت بخلافات حادة بين فقهائها حول حدود الإبداع الأدبي وتجسيده على شاشة أمام المشاهدين، أو أن تلعب فيه النساء دورا دراميا بجوار الرجا.

يتحدث حسن البنا عن الفن كوسيلة لنشر الكلمة الهادفة والقيم الإسلامية عبر المسرح الناشئ في ثلاثينيات القرن المنصرم، غير أن التجارب المحدودة التي قدمتها الحركة الإسلامية قد اتسمت بالبساطة الشديدة، واعتمدت علي العنصر الذكوري وحده، فلم تكن كافية لنستطيع إطلاق مصطلح "الفن الإسلامي" عليها.

وحديثا اهتم العلامة يوسف القرضاوي منذ مطلع حياته بمسألة الفن والآداب بكافة أنواعها، المقروءة والمسموعة والمرئية، ثم بلور فتاواه عن ذلك الاتجاه في عدة كتب؛ كان أشهرها "الحلال والحرام في الإسلام"، وكتاب "فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسنة"، وكذلك كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده". وقد تعرض في هذه الكتب وغيرها لمسألة جواز تلك الفنون ومعايير قبولها "دينيا".

وفي نفس المضمار، وفي كتابه "منهج الفن الإسلامي"، جمع الأستاذ محمد قطب (وهو أحد أقطاب الحركة الإسلامية المعاصرين)، بين الدين والفن في هدف واحد، وهو التمرد على القيود المجتمعية الموروثة وعدم التسليم المطلق لها، ومحاولة تقديم صورة مثلى (كل من وجهة نظره). غير أن عملية النفور والتباعد الحادثة وقعت بسبب التطبيق ثم الفهم الجزئي من قبل الفقهاء وتفسير الغاية العظمي من الدين والفن على السواء.

وفي الجهة المقابلة، نجد أن السلفية المعاصرة قد حرمت الفن بشكل مطلق، واتهمت العاملين به والمتابعين له بالوقوع في الحرام والزندقة، كما نصت فتوي الشيخ ابن باز على تحريم كافة أنواع الفنون المعروفة.

وهنا حدث الشقاق الفقهي بين الحل والإباحة، وظلت الفكرة مبهمة لا تملك نسقا ما لتسير عليه لتقديم نموذج يحتذى به فنيا.

وبالطبع لم يجرؤ منتجو الأعمال الفنية الاجتماعية أو التاريخية على تقديم عمل درامي متميز؛ نستطيع من خلاله أن نقيّمه كتجربة درامية منطلقة من أسس إسلامية، وذلك خوفا من انصراف الناس عنه وبالتالي الخسارة المحتملة بشكل كبير، فتم الاعتماد على إشباع الغريزة الإنسانية وليس الارتقاء بها، مما ساهم في زيادة الهوة الكبيرة بين الدين والفن.

حدود الإبداع في كتاب الله

اعتمد النص القرآني في معظم آياته علي العرض القصصي للتعليم والاعتبار والتدبر والتحفيز والتحذير، فقال تعالى في سورة يوسف: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ".

وتعددت صورة الحكي في كتاب الله بين قصص الأنبياء وخصومهم، وبين قصص الصالحين، وقصص المدن والبلدان، والقصص الاجتماعي، وعرضت مشكلات النفس البشرية في صورتها الحقيقية دون مواربة أو تجميل أو تزييف، وواجهت احتياجاتها الفطرية بشكل مباشر. ولم يتوقف النص القرآني علي الوعظ والأوامر والتخويف، وإنما واجه تلك الاحتياجات باعتراف كامل مع توجيه يوازي السلوك الفطري الطبيعي للإنسان في كل عصر.

ففي سورة يوسف كنموذج قصصي متكامل، نجد وصف مشاعر الأبوة الطاغية على الابن الصغير وخوف الأب الفطري عليه ورعايته له واهتمامه به، ثم نجد مشاعر نموذج من الأخوة المتناقضة كرد فعل على الاهتمام الأبوي الكبير. ثم تدور الأحداث تجاه معالجة تلك الظاهرة البشرية الطبيعية عند جانب من البشر (أبناء نبي).

وفي مشهد آخر في نفس القصة نجد الألفاظ المعبرة بدقة عن جانب من المشاعر الإنسانية باعتراف رباني كامل بها، ذكر اللفظ بعمق يناسب حجم تلك المشاعر، مع الحفاظ الكامل على قيمة الحياء الواجب غرسها في النفس الإنسانية. فنجد مثلا في حديثه سبحانه عن مشاعر امرأة العزيز: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ"، ذكر لفظ المراودة دون تفصيل، وترك مساحة لخيال القارئ أن يتخيل كيف كانت تلك المراودة وتلك التهيئة؛ حرص رباني على تنظيف سمع وبصر المؤمن من تفاصيل يمكن الاستعاضة عنها بذكر اللفظ مجرد، بالرغم من أنه يحمل كل ما يمكن تخيله في عقل المتابع، بغير أذى السقوط الأخلاقي اللفظي. أيضا يقول سبحانه "قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً"، فلفظ الشغف يوحي بالعمق ومع ذلك هو لا يؤثر على الغريزة، بقدر تأثيره على النفس العليا، ثم الصراع الداخلي النفسي للمرأة المتمثلة في زوجة الحاكم، والرجل المتمثل في غلامه والذي أحسن إليه فأعرض عنها عرفانا بحقه وفضله، وإيمانا بربه حد أن يفضل السجن على الوقوع في ما تريد.

روى القرآن القصة كاملة بذكر كافة تفاصيلها الحسية والمعنوية، مهذبا فيها المشاعر الإنسانية لأعلي مراتبها، ومن هنا يتضح الخطاب الفني الواجب الاعتماد عليه في أي انطلاقة فنية مرتقبة، فلا حد للإبداع الفني، إلا الحفاظ علي طهارة المجتمع.

الدراما التركية بين أسلمة الفن وتاريخية النص

وبين تنظير الفقهاء والرافضين للفكرة من الأساس في بلاد العرب، انطلقت الدراما التركية لتتحدى الواقع المفروض في عدة أعمال عالمية لتثبت ليس مشروعية الفن فقط، وإنما أهميته وفرضيته كخطاب عالمي لازم للتعريف بالتاريخ والحياة الاجتماعية في ظل مجتمع إسلامي، وكنوع من الخطاب الناعم الموجه للآخر.

ولست أدّعي أن الدراما التركية الأخيرة تمثل النموذج الأمثل الواجب السير على خطاه، ولم يدّع المنتج التركي ذلك، وإنما أراها نواة لبداية قوية لاقتحام ألوان الفن كصورة مثلى لتقديم مجموعة القيم المجتمعية إصلاحا وإضافة وتكوينا.

فبعدما استطاع الفن التركي في مسلسل أرطغرل أن يحتل المراكز الأولى عالميا، كما نشر في يني شفق في نيسان/ أبريل 2017، صرح محمد بوزداغ، كاتب ومخرج مسلسل قيامة أرطغرل قائلا: "استطعنا بنجاح تجسيد تاريخ الأراضي العثمانية وتاريخها القيّم على مرّ السنين عبر هذا المسلسل، ليصل صداها لأكبر عدد من المشاهدين من ثقافات ودول مختلفة ويصبح المفضّل لديهم".

وفي تصريحات أخرى لموقع "The Ranking" ووكالة أنباء تركيا، أعلن أن مسلسل أرطغرل حصل على مليارات المشاهدات في تركيا وأوروبا والعالم العربي ودول شرق آسيا.

ولم يكن ذلك النجاح غير المسبوق خاص بمسلسل أرطغرل التاريخي فقط، وإنما لعدة مسلسلات تركية تبعته مثل قيامة عثمان، ونهضة السلاجقة، ثم المسلسل الجديد الذي انتظره الملايين وهو "الإخوة بربروس"، ليثبت المنتج التركي أن المسلسل التاريخي المصبوغ بصبغة إسلامية يمكن أن يتفوق بصورة مذهلة على المسلسلات الاجتماعية المعروفة.

وتجاوزت تركيا تلك الحالة العقيمة من الجدل النظري لتحتل المرتبة الثانية في تصدير الدراما عالميا، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حسب سكاي نيوز عربية، لتضع العالم العربي عامة والحركة الإسلامية خاصة في مواجهة تحد مفروض عليها لملء ذلك الفراغ الكبير.

ولم يعد تخفى على أحد أهمية تغطية ذلك الجانب وتلك الوسيلة في نقل وجهة النظر التاريخية والمعاصرة للمشاهدين، وتقديم نوع من الفن يلتقي مع الدين في الهدف كما مر بنا. وعلى جميع المعنيين عدم الانصياع لظن أثبتت التجربة خطأه؛ من أن رغبة المشاهدين تتوجه دوما للفن الهابط، وعليهم أن يدركوا أن الجماهير متعطشة لكل ما هو جميل وصادق وعفيف، وأن الإسلام لم يضع حدودا للإبداع الفني في التعبير عن المشاعر الإنسانية بكل أشكالها، وإنما وضع فقط معايير للارتقاء بها، وتهذيبها، وتحسين الأداء الإنساني كي لا يظلم بعضه بعضا، أو يشوه فطرته التي خلقه الله عليها.

إن الأمة اليوم في أشد الحاجة للابتكار أكثر من أي وقت مضى في جميع المجالات الإنسانية، أدبيا وأخلاقيا وفلسفيا، في إطار منهجي لا يخرج عن حدود الدين الواسعة، والتي لم يضعها الشارع سبحانه لتقييد الإنسانية، وإنما للارتقاء بها وتطويعها لخدمة الإنسانية..