قضايا وآراء

انخفاض الليرة التركية بين العوامل الاقتصادية والسياسية

1300x600
شهدت الليرة التركية مزيدا من الانخفاض مقابل العملات الأجنبية خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما دفع رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إلى إقالة نائبي البنك المركزي وعضوا في مجلس السياسات النقدية في البنك، وقد أدى ذلك إلى مزيد من الانخفاض في سعر الليرة، كما زاد من الانخفاض بعد ذلك بأيام اتجاه البنك المركزي لتخفيض سعر الفائدة من 18 في المائة إلى 16 في المائة، بعد خفضها في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي من 19 في المائة إلى 18 في المائة. ولكن ما لبثت الليرة أن ارتفعت قليلا واتسم سعرها بالتذبذب.

وقد أشار بيان للبنك المركزي التركي إلى أن لجنة السياسة النقدية قررت دعم ممارسات التمويل المستدام بوصفها سياسة طويلة الأجل، من دون تغيير الأهداف الرئيسة للسياسة النقدية.. وأنه في الوقت الذي يتوقع فيه استمرار التحسن في ميزان الحساب الجاري، فإن هذا التوجه مع استمرار قوته مهم لهدف استقرار الأسعار.. وأن البنك المركزي سيواصل بحزم استخدام جميع الأدوات المتاحة له حتى تظهر مؤشرات قوية تشير إلى انخفاض دائم في التضخم.. ويبلغ التضخم في أيلول/ سبتمبر الماضي 19.58 في المائة على أساس سنوي، ومن المتوقع أن يصل بنهاية العام الجاري إلى 18.4 في المائة، و11.8 في المائة في عام 2022م، و7 في المائة في عام 2023م، بما يتماشى مع الهدف الرئيس المتمثل في استقرار الأسعار.
يأتي هذه التخفيض في سعر الفائدة متوافقا مع رؤية الرئيس أردوغان الذي يرى أن ارتفاع سعر الفائدة معيق للاستثمار ومغذ للتضخم، بعكس المدرسة الدارجة التي ترى أن من أدوات معالجة التضخم رفع سعر الفائدة على الليرة، والذي بدوره يؤدي لسحب المزيد من السيولة

ويأتي هذه التخفيض في سعر الفائدة متوافقا مع رؤية الرئيس أردوغان الذي يرى أن ارتفاع سعر الفائدة معيق للاستثمار ومغذ للتضخم، بعكس المدرسة الدارجة التي ترى أن من أدوات معالجة التضخم رفع سعر الفائدة على الليرة، والذي بدوره يؤدي لسحب المزيد من السيولة فضلا عن الحيلولة دون الدولرة وتقييد الائتمان ومن ثم تقليل عرض الليرة.

ومما لا شك فيه أن الذي يعيش في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية يحس بصورة واضحة بأثر التضخم وارتفاع الأسعار التي لا يقتصر بعضها على التغير يوميا بل في اليوم نفسه. وقد أدى هذا التضخم إلى تآكل في القوة الشرائية لليرة، وهو ما يحمّل المواطن والمقيم في تركيا من أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة عبئا إضافيا كان في غنى عنه.

والواقع أن التحليل الاقتصادي لوضع الليرة لا ينفصم عن الأبعاد الخارجية والداخلية الاقتصادية والسياسية، وهو يحتاج لنظرة كلية بعيدا عن النظرة الجزئية، لا سيما في ظل ما ورد من أقوال على لسان غير المتخصصين، بجعل سبب انخفاض الليرة هو وجود لوبي في البنك المركزي يسعى للتربح من سعر الفائدة، في ظل مشاركة القطاع الخاص في ملكية البنك المركزي بنسبة 42 في المائة مقابل 58 في المائة للحكومة.

وفي رأينا أن هذه نظرة جزئية وفيها تسطيح للأمور والهروب من الواقع، لا سيما وأن الحكومة تمتلك زمام المبادرة والقرار في البنك المركزي، وإن كان من تأثير لهذا العامل فليوضع حق قدره مقارنة بغيره من العوامل الداخلية والخارجية.
التحليل الاقتصادي لوضع الليرة لا ينفصم عن الأبعاد الخارجية والداخلية الاقتصادية والسياسية، وهو يحتاج لنظرة كلية بعيدا عن النظرة الجزئية، لا سيما في ظل ما ورد من أقوال على لسان غير المتخصصين، بجعل سبب انخفاض الليرة هو وجود لوبي في البنك المركزي يسعى للتربح من سعر الفائدة

إن تركيا دولة تمثل حضارة على المستوى التاريخي والجغرافي، وكتب عليها ذلك من خلال موقعها في منطقة الصراع العالمي ومسؤوليتها تجاه أمتها، لا سيما في ظل توجهها للاستغناء عن الغرب بإنتاج غذائها ودوائها، وأخيرا سلاحها الذي قلب المعادلة في المنطقة. كما أنها في ظل المحافظة على أمنها القومي لها وجود عسكري في حدودها وخارج حدودها في سوريا والعراق وليبيا، وفي أفريقيا، وكل ذلك حفاظا على مصالحها والعودة بها إلى دورها التاريخي، وهو ما زاد من الحاقدين من أعدائها الذين تكالبوا عليها للحيلولة دون العودة لمكانتها منذ سقوط الخلافة العثمانية، من دول ووكالات تصنيف ائتماني تحركها هذه الدول وفق مصالحها.

وقد كان ما سبق عامل مهم في التأثير على سعر الليرة التي بدأت الحرب عليها خارجيا بفعل عوامل غير اقتصادية، بدءا من الانقلاب العسكري الفاشل في العام 2016م، ثم المضاربة بالمليارات عليها من دول معروفة في مرحلة الانتخابات الرئاسية والتشريعية لزيادة عرضها مقابل الدولار وانخفاض قيمتها، ومن ثم ضرب الاقتصاد من خلال العجز عن سداد الديون الخارجية للقطاع الخاص - الذي يستحوذ على نحو 65 في المائة من هذه الديون - نتيجة هذا الانخفاض وتضاعف الالتزامات، ومن ثم الوقوع في مصيدة إفلاس الشركات، وهو ما لم يحدث في ظل تحرك الحكومة لمعالجة الموقف، فضلا عن استمرار أزمة كورونا وتأثيرها لا سيما على قطاع السياحة.

كما أنه من العوامل المؤثرة على سعر الليرة داخليا التسهيلات العقارية، من حيث الفائدة والمدة التفضيلية للأتراك، والتي دفعت الناس للمسارعة بشراء العقارات مما أدى لارتفاع أسعارها ارتفاعا غير حقيقي وبروز فقاعة عقارية. وزاد من الأمر التوجه قبل ذلك بتحويل الفرصة إلى أزمة من خلال التقييم غير الحقيقي للعقارات للحصول على الجنسية التركية بفعل أصحاب النفوس غير السوية، وهو ما لفت نظر الحكومة مؤخرا ووضعت ضوابط لمنع هذا التلاعب.

ومن جانب آخر أدى الارتفاع في قيمة العقارات وإيجارها بصورة غير واقعية ومغالى فيها إلى تغذية التضخم بصورة كبيرة، وامتد ذلك إلى أسعار السلع والخدمات، لا سيما السلع الغذائية التي تمس حياة الناس، وهو ما دفع الحكومة إلى تشديد الرقابة على متاجر بيع هذه السلع وفرض غرامات على المتجاوز منهم من مستغلي الأزمة، لا سيما في ظل كون المنتجات الغذائية محلية.
زاد من الأزمة المناكفات السياسية لبعض الأحزاب، وزيادة أسعار الخدمات الرئيسة بفعل بعض المحليات لا سيما الكهرباء والمياه والغاز والنقل، واتجاه عدد غير قليل من الناس للدولرة، وهو ما ساهم في تغذية التضخم وأضر بالليرة، رغم ما شهده الاقتصاد التركي من نمو اقتصادي ونمو للصادرات غير مسبوق

كما زاد من الأزمة المناكفات السياسية لبعض الأحزاب، وزيادة أسعار الخدمات الرئيسة بفعل بعض المحليات لا سيما الكهرباء والمياه والغاز والنقل، واتجاه عدد غير قليل من الناس للدولرة، وهو ما ساهم في تغذية التضخم وأضر بالليرة، رغم ما شهده الاقتصاد التركي من نمو اقتصادي ونمو للصادرات غير مسبوق، حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي نسبة 21.7 في المائة على أساس سنوي خلال الربع الثاني من العام الجاري، وسجلت الصادرات رقماً قياسياً بلغ 207.5 مليارات دولار أمريكي على أساس سنوي، في آب/ أغسطس الماضي، بارتفاع بمعدل 52 في المائة مقارنة بالشهر نفسه من عام 2020م، فضلا عن وجود احتياطي في البنك المركزي مناسب ومتنام، حيث بلغ 126 مليار دولار في 15 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الحالي، ساهم فيه انخفاض سعر الليرة نتيجة زيادة الصادرات، لبلد يتسم اقتصاده بأنه إنتاجي حقيقي.

وهذا الواقع التركي يتطلب حزمة اقتصادية متكاملة للخروج من تلك الأزمة وتحقيق الاستقرار من خلال معالجة التضخم، وفي رأينا أن ربط هذه المعالجة برفع سعر الفائدة هي معالجة عقيمة، فلن يمنع ذلك الدولرة في ظل ثقافة عدم الثقة بالليرة التركية، كما أنه في الوقت نفسه معيق للاستثمارات ومزيد لتكلفة الإنتاج، ومن ثم تغذية التضخم من جانب آخر، ومن ثم فالأولى هو الاتجاه نحو سياسة نقدية تيسيرية وفقا لرؤية الرئيس أردوغان الذي هو في البداية والنهاية مسؤول عن السياسة الاقتصادية ومنها النقدية، مع أهمية ترك البنك المركزي لتطبيق هذه السياسة من خلال إسناد الأمر إلى المؤمنين بها باستقلالية، دون حاجة إلى تغييرات من فترة قصيرة لأخرى.
تبدو أهمية استخدام سياسة الاحتياطي القانوني وسياسة السوق المفتوحة للتحكم في عرض النقود، مع استخدام الاحتياطي القانوني بحذر حتى لا يكون عرضة للتبخر، وذلك باتباع سياسة ضغط الفقاعة وانفجارها دون إهدار للاحتياطي

كما تبدو أهمية استخدام سياسة الاحتياطي القانوني وسياسة السوق المفتوحة للتحكم في عرض النقود، مع استخدام الاحتياطي القانوني بحذر حتى لا يكون عرضة للتبخر، وذلك باتباع سياسة ضغط الفقاعة وانفجارها دون إهدار للاحتياطي، وكذلك منح المزيد من المزايا للمستثمرين، وتفعيل الرقابة على أسعار السلع والخدمات وسماسرة العقارات وشركات الصرافة، وطرح مزيد من الأراضي من قبل الحكومة بأسعار مناسبة بعيدا عن المزادات على أن تكون مخصصة لبناء الوحدات السكنية خلال فترة عام من بدء ترخيصها، وهو ما يزيد من العرض الخاص بها ويغلق باب التضخم الناتج عنها.

كما تبدو أهمية علاج ترشيد الواردات، لا سيما قطاع الطاقة الذي يستحوذ على الجزء الأكبر منها، وخاصة في ظل ارتفاع أسعارها عالميا، من خلال تفعيل نظام المدفوعات الثنائية والمتعددة مع الدول التي تحتل جزءا كبيرا من الواردات التركية بعيدا عن استخدام الدولار، وهو ما يقلل من الاعتماد عليه ويسهم في الحفاظ على قيمة الليرة، إضافة إلى تسريع وتيرة التنقيب عن النفط والغاز، وترشيد الديون قصيرة الأجل التي مُني بها القطاع الخاص، وتحجيم ارتفاع أسعار الخدمات العامة، وتعزيز التمويل الإسلامي القائم على الغنم والغرم بصورة عملية، وتفعيل دور جمعيات رجال الأعمال من خلال إقامة معارض تطرح فيها السلع الأساسية بأسعار مناسبة، حتى تستقر الأسعار بصورة تيسر معيشة الناس.

twitter.com/drdawaba