كتاب عربي 21

البرهان وإدمان البهتان

1300x600

البهتان مصدر بهَتَ، وهي كل باطل، وكذب مُفترًى، وجاء في القرآن الكريم {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} والكلمة تعني الظلم {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، ويقال فلان عُرِفَ بِالبُهْتَانِ بَيْنَ زُمَلائِهِ أي  بِالكَذِبِ وَالافْتِرَاءِ، وعبد الفتاح البرهان، الحاكم بأمره في سودان اليوم بعد أن انقلب على حكومة كان شريكا فيها، ظل يمارس البهتان على مدى أكثر من عامين لتبرير أفعاله، أو التغطية على مخططه لتحقيق طموح الانفراد بالحكم.

صعد البرهان إلى صدارة المشهد السياسي في السودان عقب ثورة شعبية على نظام عمر البشير واعتصام الآلاف في واجهة القيادة العامة للجيش، فجاء مجلس للجنرالات ليحل محل البشير ورفضه المعتصمون فجاء البرهان ومعه ثلة أخرى من الجنرالات، بزعم أنهم من أنصار الثورة والتغيير، وظل البرهان يشيد بالاعتصام والمعتصمين، ويتعهد بتأمينه وضمان سلامة المشاركين فيه ثم وفي ليل الثالث من حزيران/ يونيو خطط مع معاونيه لفض الاعتصام وتم التنفيذ فكانت مجزرة لم تجف دماؤها بعد، وحينها تكشف كيف أن البرهان كان كذوبا يقول الشيء ويضمر نقيضه.

وتشكلت حكومة انتقالية عقب إزاحة البشير بمقتضى شراكة بين المدنيين والعسكريين، وظل البرهان بوصفه رئيس مجلس السيادة حريصا على التأكيد بأنه ملتزم بإنجاح تلك الشراكة والعبور بالبلاد بنهاية الفترة الانتقالية إلى حكومة منتخبة ديمقراطيا، ثم ينكص على عقبيه ويشن حربا كلامية على المدنيين في مجلس الوزراء، وبلغ البرهان شأوا عظيما في البهتان في العيد الـ 66 للقوات المسلحة في آب/ أغسطس من عام 2020، عندما خاطب جنوده قائلا: إن الحكومة المدنية فاشلة وخذلت من صنعوا الثورة، وأنها من فرط استهتارها رفضت مئات الملايين التي قدمتها هيئة التصنيع الحربي للخزينة العامة، ثم وفي لحظة أحسب أن عقله كان غائبا تماما خلالها أضاف: أعطيناهم الملايين من "عائدات مشاركة أولادنا في حرب اليمن" ولكنهم (الوزراء المدنيون) رفضوها، وفي واحدة من زلات لسانه العديدة قال إنه يريد "تفويضا" من الشعب لإصلاح الأحوال، ولاحقا أدرك الناس أن عقله الباطن خذله وحمله على التلميح بأنه يريد تفويضا للاستيلاء على السلطة.

وفي 21 أيلول سبتمبر/ المنصرم حدثت محاولة انقلابية "جادة" كان قوامها سلاح المدرعات، ووجدها البرهان سانحة ليس للتنديد بالانقلاب، ولكن للتمهيد لانقلاب 25 تشرين أول/ أكتوبر، فقد طاف بالوحدات العسكرية مؤلباً إياها على القوى المدنية ومذكرا إياهم بأنهم "أوصياء على الوطن"، وكان في واقع الأمر يقول إنه الأولى والأجدر بالوصاية على الوطن باسم المؤسسة العسكرية.

وعلى مدى أكثر من شهر عمل البرهان على تأزيم الأوضاع في السودان بإحداث قطيعة بين هياكل الحكم وتعطيل دولاب العمل في مراقيه العليا، ثم، وخلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت انقلابه الأخير عمد إلى تحريك عاصفة من الدخان للتعتيم على الانقلاب بالتأكيد المتكرر بأنه يريد المحافظة على الشراكة مع المدنيين، وأن قلبه وعقله مفتوحان لجميع المبادرات الرامية لاحتواء الأزمات الحكومية، وكان من بين من عملوا بهمة لإنجاز مثل ذلك الاحتواء جيفري فيلتمان مبعوث الحكومة الأمريكية إلى القرن الأفريقي، والذي وصف البرهان بعد حدوث الانقلاب بأنه كان سيء النية وكذوبا بتعمده تضليل الوسطاء الذين كانوا يتواصلون معه وبقية أطراف الأزمة، حتى يجد الغطاء المنشود لانقلابه.

 

ظل البرهان يستعين في أمر مزاولة المكر والخديعة والبهتان ببعض مساعديه العسكريين، ولكنهم ومن فرط سذاجتهم السياسية وافتقارهم لقدرات التعامل مع وسائل الإعلام جلبوا عليه وعلى أنفسهم الشماتة والسخرية،

 



وانفراد طغمة من الجنرالات بالحكم غايته الأساسية حماية مصالحهم الاقتصادية، فالجيش كما قال رئيس الوزراء السوداني الشرعي عبد الله حمدوك يتحكم في أكثر من 80% من مفاصل الاقتصاد السوداني، وبالتحديد في المجال الصناعي المدني والصادرات، بل رشح أن المؤسسة العسكرية تتولى بيع اللحوم إلى مصر بواقع أربعة جنيهات للكيلوغرام (وسعر الكيلو داخل السودان فوق الـ 400 جنيه) لتعيد مصر تصديره باعتبارها منتجات مصرية، وتفيد تقارير محكمة بأن السودان خسر أكثر من 60 مليون دولار نتيجة تواطؤ جهات نظامية في تهريب الإبل إلى مصر، وهناك قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي ساعد البرهان الأيمن، والضالعة في مجالات اقتصادية ضخمة من بينها إنتاج وبيع الذهب بلا رقيب أو حسيب، ولأنه دخيل على السياسة وأمور الحكم فقد أصدر حميدتي إدانة بحق نفسه وقواته عندما قال في تصريح له عقب الإطاحة بالبشير إن الدعم السريع قدم للخزينة العامة مليار و27 مليون دولار للحكومة، ولم يفصح عن "من أين له هذا؟"، ولكن أمر شركة الجنيد التي يديرها إخوته وأقاربه الذين يحتكرون الرتب العسكرية العليا أيضا لتلك القوات معلوم لدى الكافة.

وفي هذا قال كينيث روث المدير التنفيذي للمنظمة الدولية لحقوق الإنسان على حسابه في منصة تويتر: الدافع الأساسي وراء الانقلابات في كل من ميانمار والسودان هو المصالح التجارية الواسعة لكلا الجيشين، اللذين لا يريدان التخلي عنها أو إخضاعهما للسيطرة المدنية، "فالجنرالات يقدمون الربح المادي على الديمقراطية".

ظل البرهان يستعين في أمر مزاولة المكر والخديعة والبهتان ببعض مساعديه العسكريين، ولكنهم ومن فرط سذاجتهم السياسية وافتقارهم لقدرات التعامل مع وسائل الإعلام جلبوا عليه وعلى أنفسهم الشماتة والسخرية، وفي 30 تشرين أول/ أكتوبر المنصرم شهدت مدن السودان أعاصير بشرية رافضة لانقلاب البرهان، وتعرض المشاركون فيها للضرب بالذخيرة الحية، رغم أن البرهان أعلن أن تسيير المواكب حق مكفول للمواطنين، فإذا بمستشاره الإعلامي يخرج على الناس زاعما أن 12 جنديا من قوات الجيش تعرضوا للرجم بالحجارة من قبل المتظاهرين ثم أتوا بأحدهم على القناة التلفزيونية الرسمية ليحكي كيف أصيب بجرح في الرأس.

وسرعان ما انكشفت سذاجة البهتان فقد ظهر على الشاشة أن كلام الجندي تم تسجيله في العاشرة والربع صباحا بينما لم تنطلق المواكب إلا بعد الواحدة بعد الظهر في ذلك اليوم.

كان الهتاف الأكثر ترديدا خلال مسيرات 30 تشرين أول/ أكتوبر الحاشدة: يا عسكر ما في حصانة/ يا مشنقة يا زنزانة، ويبدو أن البرهان وصل مرحلة "طارت السكرة وجاءت الفكرة، لأنه يسعى جاهدا من خلال وسطاء إلى إقناع حمدوك بتشكيل حكومة جديدة، ويفوت عليه أن الرهينة لا يبرم الصفقات مع مختطفه، رغم استعصام البرهان المستمر بسلاح البهتان بالزعم بأن حمدوك حر طليق (ربما يعني في محيط غرفة جلوس بيته).