الذاكرة السياسية

البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة

الكاتب والباحث اللبناني فيصل جلول يروي لـ "عربي21" مسيرة السياسي اليمني الجنوبي علي سالم البيض (فيسبوك)

"كنا نأكل الفاصولياء بنصف شلن في مطعم في حي الشيخ عثمان في عدن وكنا سعداء. كنت أتحرك باسم مستعار هو أبو بكر وأتنقل متنكرا عبر الحواجز العسكرية تارة بلباس شيخ بدوي وتارة أخرى بلباس باكستاني.. كانت صورتي وصور رفاقي موجودة على الحواجز لإلقاء القبض علينا". هذه العبارات التي ذكرها علي البيض في شهادته حول مقاومة الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، تبدو وكأنها بصمة من أثر اللغة السياسية التي تفخر بالتواضع والتضحية والشجاعة وكانت رائجة في ستينيات القرن الماضي ومستوحاة من الثورات الكوبية أو الفيتنامية والبلشفية. هذا ليس غريبا عن مناضلي النصف الثاني من القرن العشرين الذين ألهمتهم تلك الثورات فتثاقفوا معها وتحدثوا بلغتها.
  
لم يكن علي البيض استثناء بين رفاقه لكن ربما أكثرهم عنادا وتشددا واندفاعا والتزاما بقواعد ومبادئ النضال الثوري وسنراه خلال الحقبة الاستعمارية مقاتلا على كل الجبهات وسنراه أيضا متصلبا في مواجهة "جبهة التحرير" التابعة لمصر الناصرية في حينه والتي دخلت في صراع مفتوح مع "الجبهة القومية" التي ينتمي إليها البيض. سينفصل عن جبهته الأم احتجاجا على التفاوض والمساومة مع الجبهة المذكورة وسيشكل "الجبهة الشعبية لتحرير حضرموت" ليتخلى عنها ويعود إلى تنظيمه بعد فشل الاندماج بين الطرفين.

 

                   من معارك اليمنيين في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني

نتابع في الفقرات التالية تفاصيل الأدوار التي لعبها البيض في إسقاط السلطنات التي أقامها الاستعمار البريطاني خلال أكثر من قرن في جنوب اليمن. علما أن هذه التفاصيل مستقاة من شهادته الشخصية حول تلك الفترة وقد أشرنا إليها في حلقة سابقة وبعضها وصلني من رفاق البيض ومتابعي مسيرته وهم كثر داخل وخارج اليمن.

في العام 1965 طلبت قيادة "الجبهة القومية "من البيض الذي صار كادرا عسكريا مؤهلا، قطع دراسته في القاهرة والعودة إلى جنوب اليمن الذي كانت ثورته ضد الاحتلال البريطاني قد اندلعت في 14 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1963 بمبادرة من الشيخ القبلي الردفاني راجح بن لبوزة، الذي ما أن فرغ من القتال دفاعا عن الثورة الجمهورية في شمال اليمن، حتى أطلق تمردا في ردفان والضالع، سيعتبر بمثابة الشرارة الأولى للثورة الجنوبية ضد الاحتلال البريطاني المستمر منذ أكثر من 130 عاما والذي أقام في جنوب اليمن 22 إمارة ومشيخة وسلطنة تابعة له وتحكم باسمه.

نفذ البيض ما طلب تماما كما فعل رفاقه الذين اشتركوا في دورة "الصاعقة" المصرية التي أشرنا إليها في الحلقة الماضية. ووضع نفسه بتصرف القيادة. سيقاتل في كل الجبهات الجنوبية بوصفه أحد القادة العسكريين الكبار (ربما المسؤول العسكري المركزي) في "الجبهة القومية" التي تقود عمليات المقاومة ضد المحتل، وبخاصة في الشهور الأخيرة من العام 1967 وحتى انتصار الثورة في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967.

 

                      صور من معارك اليمنيين ضد الاحتلال البريطاني

الحدث الأبرز في تلك الفترة كان احتلال الثوار لـ "حي كريتر" في عدن في 20 حزيران (يونيو). يقع الحي في عرين السلطة الاستعمارية وقد استمرت السيطرة عليه أياما وتردد صداه في صفوف اليمنيين في أنحاء البلاد، فتأكد للناس أن سيطرتهم على مناطقهم النائية سوف تكون أسهل من استرداد حي يقع على مقربة من ثكنات الجيش البريطاني وقاعدته البحرية. ولا مبالغة في القول إن هذا الحدث قد أطلق موجات شعبية ناهضة ضد الاحتلال وسلاطينه التقطتها "الجبهة القومية" في اللحظة المناسبة وحولتها إلى حركة قاتلة لنظام السلاطين في شهور معدودة.

بعد مضي شهرين على هذا الحدث أي في القسم الثاني من آب (أغسطس) 1967 قررت قيادة "الجبهة القومية" إسقاط سلطنة الفضلي في محافظة أبين. حول هذا القرار يقول البيض: ".. كُلِّفتُ أنا وسالمين (سالم ربيع علي رئيس الجنوب المقبل) بإسقاطها وأخذنا معنا بعض الإخوة لمرافقتنا. وهم محسن (محمد سعيد عبد الله) وعمر العلواني وفرحان (علي حسين). كنت مكلفا من القيادة العامة وسالمين بوصفه من أبناء المنطقة. كان لدينا تنظيم سري في السلطنة وتحديدا في (زنجبار) وفي (مودية). طلبنا من أعضاء التنظيم أن يتجمعوا في منطقة (شقرة) على أن نلحق بهم إلى تلك المنطقة. 

كان علينا أن نسيطر على هدفين. الأول (مركز الشرطة) في المنطقة والثاني هو (معسكر الداخلية) للطرقات المولج بحماية عمال يشقون طريقا مسفلتة من شقرة إلى العرقوب. سيطرنا على هذا المعسكر الذي يحتوي على آليات ومعدات وبعض الأسلحة التي كنا بحاجة إليها. تجاوب معنا اليمنيون الذين كانوا في المركز بسهولة وأعلنوا ولاءهم للجبهة القومية واحتل رفاقنا من بعد المعسكر الكبير التابع للداخلية. توجهتُ في هذا الوقت إلى منطقة (العلم) واتصلت بأحد عناصرنا في المركز الذي أعطاني مسدسه لأنني كنت من دون سلاح وذهبنا إلى زنجبار واستنفرنا تنظيمنا وأوضحنا لهم خطتنا لاحتلال السلطنة.

 

                  من معارك اليمنيين في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني

في ذلك الوقت كان نائب السلطان موجودا في المكان ويسمى الأعور لأنه كان يرى بعين واحدة. كانت لدينا قوة موالية في قصر السلطان، طلبنا من عناصرها الاستعداد للتحرك بعد أن بلغناهم بقدومنا على أن يصمدوا لحين وصولنا. سيطرنا من بعد على بيوت السلاطين الذين هربوا منها قبل وصولنا وهرب معهم نائب سلطان الفضلي. في فجر اليوم التالي كانت السلطنة قد سقطت بيدنا وحصلنا على معداتها وأسلحتها وكل إمكانياتها.

بعد سقوط السلطنة "حصل زحف جماهيري عارم من زنجبار بكل ما لدى الناس من أسلحة وإمكانيات وتولى سالمين إدارة الوضع على الأرض في حين كلفتني القيادة بالتوجه إلى (محافظة) لحج. في لحج كان وضعنا صعبا لأن "جبهة التحرير" ضغطت علينا".

"أخذتُ مجموعة معي بالسيارات وتوجهت إلى (لودر) ومنها إلى (جعار) وجمعنا قوة منها ومن أبين. أخذت معي عبد الله الأشطل وكان طالبا صغيرا لكنني أخذته معي كي يتمرس ويتعرف على الناس وكانت تربطنا علاقة حميمة. هو جاء إلى الجبهة القومية من "الحزب الديمقراطي" (صار الأشطل من بعد سفيرا لجنوب اليمن لدى الأمم المتحدة وسفيرا لليمن الموحد في المنصب نفسه)".

"كان إخواننا في (لَحِجْ) يعانون من ظروف صعبة وقد سقط خمسة شهداء منهم وتراجعت قواتنا في دار سعد وتقدم (جيش التحرير) التابع لخصومنا وسيطر على الوضع. تراجعت قيادتنا واختارت التفاوض معهم لإنقاذ الموقف في لحج. لم أقبل هذا الكلام لأننا نحتفظ بقوات مهمة في مناطق أخرى ويمكننا تحريكها وليس المساومة مع (جبهة التحرير). كان قرار القيادة غير مدروس وغير ملائم للأوضاع على الأرض. كان صدمة كبيرة لنا. أما الذين اتخذوا هذا القرار فهم قحطان الشعبي وسيف الضالعي وسلطان أحمد عمر. بعد القرار انسحبنا إلى عدن ودخلنا في الحرب الأهلية في حي الشيخ عثمان وكانت الأولى بيننا وقد حققوا تقدما علينا بواسطة تنظيمهم الشعبي المعروف بكونه تنظيم المخابرات المصرية في (جبهة التحرير)".

"بعد سقوط سلطنة الفضلي نقلنا قيادتنا أي قيادة الجبهة القومية من عدن إلى الكود في السلطنة. كنت أرى في ذلك الحين أن (جبهة التحرير) ستشكل قوة مضادة للثورة وقد تبين من بعد أنني كنت على حق".

"بعد استقرارنا في أبين كلفتني القيادة بالذهاب إلى حضرموت. في تلك الفترة سقطت سلطنة القعيطي وكانت تشمل المكلا وكل المناطق المحيطة بها ما عدا (تريم وسيئون) وكانتا تابعتين لـ (سلطنة الكثيري) الصغيرة التي كانت قائمة في وادي حضرموت وقد أسقطناها في 2 تشرين الأول (أكتوبر)".

"تمت لنا السيطرة على الشكل التالي: وصل سلطان القعيطي وسلطان الكثيري بالباخرة إلى المكلا وكان رفاق لنا يقولون إنه يمكن أن نسيطر على السلطنتين شرط أن نسمح للسلاطين بالخروج سالمين وبالتفاوض معهم. ومن هؤلاء سعيد العكبري في القيادة المحلية للجبهة القومية وسالم الكندي وقد أعدم لاحقا وخالد عبد العزيز. تفاوض هؤلاء مع الأجهزة العسكرية ومع السلطات المحتلة وقالوا لنا إن كنتم تريدون أن ننضم إليكم اتركوا السلاطين يرحلون ولا تلمسوهم".
 
"رفضنا المساومة مع السلاطين ومؤيديهم وحركنا قواتنا إلى المكلا. كنا ندعو الناس إلى إسقاط السلطنتين وكان التجاوب معنا كبيرا. فألقى العملاء قنبلة علينا أثناء الزحف، أصابت العديد من المواطنين لكن ذلك لم يحبط عزيمتنا. تحركنا بقوة ليلا واعتقلنا عناصر السلطنة في المكلا وفي الشحر والمناطق الأخرى. اعتقلنا كل عناصر السلطة القديمة ومعها عناصر قيادية في تنظيم (رابطة أبناء الجنوب العربي)" المناهضة للثوار. 

"لقد انتصر رأينا بأن التحرير لا يتم عبر المساومة مع السلاطين. سيطرنا على كامل حضرموت في 2 تشرين الأول (أكتوبر) وطهّرنا المنطقة من وجود المحتلين وجماعتهم. ثم شكلنا سلطة من الجبهة القومية في حضرموت وعيّنا مسؤولين عنها من ضمنهم خالد باراس والحاج صالح باقيس وعبد الرحيم عتيق. سيطرتنا على حضرموت أضعفت خصومنا في "جبهة التحرير" وأدت من بعد إلى تحقيق الانتصار النهائي عليهم في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967 وبالتالي تسلم الجبهة القومية السلطة منفردة في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1967."

في المحصلة كان البيض ينتمي إلى التيار الراديكالي في الجبهة القومية. ولعل تشدده، بل راديكاليته الخاصة قد أسفرت عن حسم الموقف لصالح رفاقه وبالتالي تحقيق الانتصار الحاسم في حرب التحرير على الجيش البريطاني وتوحيد 22 سلطنة ومشيخة وإمارة، ومن ثم إقامة النظام الاشتراكي العلمي أو الماركسي الوحيد في العالم العربي. هذا النظام الذي سيظل قائما حتى العام 1990 تاريخ اندماج جنوب اليمن مع شماله.