قضايا وآراء

فشل "الاستشارة الإلكترونية "واستحالة "الحوار الوطني" بتونس

1300x600
مهما كان توصيفنا "للإجراءات" التي اتخذها الرئيس التونسي يوم 25 تموز/ يوليو، وسواء آعتبرناها انقلابا على الدستور أم تصحيحا للمسار، فإن تلك الإجراءات قد كشفت بؤس العقل السياسي المهيمن على الديمقراطية التمثيلية، وعمق الأزمة البنيوية التي يعيشها الانتقال الديمقراطي وتكاد تعصف بسردية "الاستثناء التونسي" ومنجزه المؤسساتي الهش. فقد استطاع الرئيس القادم من خارج الأحزاب، وصاحب الصلاحيات المحدودة دستوريا، أن يعيد هندسة الحقل السياسي (تجميد البرلمان، حل الحكومة، تعطيل العمل بالدستور إلا التوطئة والفصلين الأول والثاني)، بل استطاع أن يُنصّب نفسه حاكما مطلقا لتونس، مستعينا على ذلك كله بغياب أية جهة رقابية يمكنها الطعن في أوامره ومراسيمه، بحكم غياب المحكمة الدستورية وحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.

لقد استطاع الرئيس التونسي توظيف أزمة الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل، ليهيمن بعد 25 تموز/ يوليو على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وليضيف إليهما في الفترة الأخيرة السلطةَ القضائية بعد حل المجلس الأعلى للقضاء وتنصيب مجلس أعلى مؤقت. كما أعاد الرئيس منطق "التعليمات" إلى العديد من أجهزة الدولة (خاصة المؤسسة الأمنية والمؤسسات الإعلامية العمومية)، وعمل على توظيف الإدارة بمختلف مستوياتها لإنجاح "الاستشارة الإلكترونية" التي أريد لها أن تلعب دورين متكاملين: دور البديل للحوار الوطني الذي دعا إليه حتى "أنصار الإجراءات" والعديد من القوى الدولية، ودور الأساس الذي سينبني عليه "الاستفتاء" ويمده بالشرعية الشعبية.
"الخبير الدستوري" الذي يؤمن بـ"زمن سياسي جديد" والذي يبشر بانتهاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة (خاصة الأحزاب)، لا يجد أي حرج في توظيف بعض آليات تلك الديمقراطية، لكن بعد شحنها بدلالات جديدة تقطع -حسب رأيه- مع مضامينها ووظائفها التقليدية التي كانت تهدف إلى "تزييف" الإرادة الشعبية

قبل توليه رئاسة الجمهورية التونسية، كان السيد قيس سعيد -وهو أمر مثبت في أحد تسجيلاته المصورة- ينتقد الاستفتاء قائلا: "الاستفتاءات في البلدان العربية أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة.. تتنكر تحت عباءة الاستفتاء. هو ليس استفتاءً حول المشروع، ولكنه استفتاء حول صاحب المشروع". وقد يكون من السهل أن نتهم الرئيس التونسي بالتناقض أو حتى بالتلاعب بوعي الناخبين، ولكنّ المسألة أعقد من هذا. فـ"الخبير الدستوري" الذي يؤمن بـ"زمن سياسي جديد" والذي يبشر بانتهاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة (خاصة الأحزاب)، لا يجد أي حرج في توظيف بعض آليات تلك الديمقراطية، لكن بعد شحنها بدلالات جديدة تقطع -حسب رأيه- مع مضامينها ووظائفها التقليدية التي كانت تهدف إلى "تزييف" الإرادة الشعبية.

إذا ما حاولنا قراءة الجملة السياسية للرئيس التونسي "قراءة تفهمية"، فإن علينا أن نسلّم له بأنه ليس ضد وجود "الأجسام الوسيطة" بصورة مطلقة، بل هو ضد قيام الأحزاب بتلك الوظيفة في الحقل السياسي، وهو ليس ضد "مجلس النواب" بل ضد النظام الانتخابي القائم على القوائم لا على الأفراد، وهو أيضا ليس ضد "الاستفتاء" بل ضد أن يكون استفتاءً على شخص لا على مشروع. ولذلك كله فإن الرئيس التونسي لا يرى أي تناقض بين موقفه القائم على قراءة استقرائية نقدية لواقع الاستفتاءات في ظل الأنظمة الاستبدادية (فهي لم تكن استفتاءات على مشاريع بل على أشخاص)، وبين توظيفه لآليتي "الاستشارة" و"الاستفتاء" لتأسيس "الجمهورية الثالثة". فهو لا يعتبر ما يقوم به استفتاءً على شخصه (لأنه يرى نفسه "زاهدا" في الحكم ولكنه مضطر إلى تحمل الأمانة باختيار إلهي وتفويض شعبي)، وهو لا يرى أيضا في تحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تكريسا لحكم الفرد أو تمهيدا لنظام رئاسوي لا يختلف عن النظام القديم في شيء، بل يعتبر نفسه "صاحب مشروع"، أو بالأحرى يعتبر نفسه "مشروعا" لتحكيم الإرادة الشعبية وتحريرها من التزييف أو "مشروعا" للشهادة.
هو لا يرى أيضا في تحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تكريسا لحكم الفرد أو تمهيدا لنظام رئاسوي لا يختلف عن النظام القديم في شيء، بل يعتبر نفسه "صاحب مشروع"، أو بالأحرى يعتبر نفسه "مشروعا" لتحكيم الإرادة الشعبية وتحريرها من التزييف أو "مشروعا" للشهادة

بصرف النظر عن البنية اللاهوتية العميقة لفكر الرئيس التونسي (استثمار المعجم الديني مثل مفاهيم الاختيار الإلهي، الأمانة، الشهادة، النفاق.. الخ)، وبصرف النظر عن خطورة الثنائيات اللا متكافئة التي تحكم جملته السياسية وتسيّج آليات إنتاجها للمعنى (الحق/ الخير/ النور في مقابل الباطل/ الشر/ الظلمة وما يتفرع عنها من ثنائيات مشتقة)، فإن إصرار الرئيس على الذهاب بمشروعه إلى نهاياته القصوى (أي الاستفتاء) حتى بعد فشل "الاستشارة الإلكترونية" يجعله في حرج سياسي كبير.

فإذا كان الرئيس -مثلما يدعي- ممثلا حصريا للإرادة الشعبية ومجرد مرآة عاكسة لتلك الإرادة، فإن فشل الاستشارة (لم يبلغ عدد المشاركين فيها عدد الذين انتخبوا الرئيس في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، رغم كل أشكال الإشهار ورغم توظيف أجهزة الدولة والإعلام العمومي) ينسف تلك الادعاءات بمعطى موضوعي لا يمكن التشكيك فيه، ويفرض على الرئيس -منطقيا- أن يفكر في خارطة طريق بديلة لإدارة حالة الاستثناء والخروج من الأزمة السياسية بعيدا عن منطق الأوامر والمراسيم، ودون تخوين أغلب الشركاء في الوطن أو شيطنتهم.

من المستبعد أن يتعامل الرئيس مع الرسالة التي بعثها له فشل "الاستشارة الإلكترونية"؛ بصورة تختلف عن تعامله مع الرسائل السابقة التي بعثتها الجهات المانحة والقوى الدولية المنادية بعودة المؤسسات والفصل بين السلطات. كما نستبعد أن يكون فشل الاستشارة مناسبة لتعديل خارطة الطريق الرئاسية أو لحمله على التراجع عن الاستفتاء والاستفراد بـ"السلطة التأسيسية"، بعد أن جمع بين يديه كل السلطات الأخرى بمنطق "الغلبة". فأمام غياب بديل حقيقي للوضع السياسي الحالي، وبحكم تشتت المعارضة وعدم جدية الضغوط الخارجية، يبدو أن فشل الاستشارة الإلكترونية لن يُثنيَ الرئيس عن الذهاب إلى الاستفتاء وتحكيم مخرجاته في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، بل إننا نرجح أن فشل الاستفتاء ذاته (سواء أشاركت المعارضة فيه أم قاطعته) لن يعدّل في مشروع الرئيس شيئا، ما دامت موازين الضعف بين الرئيس وخصومه هي ذاتها.
الرئيس لا يعتبر الاستشارة (أو الحوار الوطني العمودي) إلا شكلا من أشكال الاستئناس بالإرادة الشعبية؛ التي سبق لها أن فوضته تفويضا مطلقا ونهائيا وغير قابل لـ"سحب الوكالة" منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي. وهو ما يعني أن الرئيس لن يعتبر فشل الاستشارة أو فشل الاستفتاء طعنا في شرعيته

ختاما، قد يكون من نافلة القول أن نذكّر بأن رفض الرئيس للحوار الوطني كان نتيجة عدم إيمانه بالحوار الأفقي مع خصومه أو حتى مع أنصاره من قيادات الأحزاب والمنظمات (فالحوار لا يكون إلا بين متساويين أو على الأقل بين طرفين يعترف كل منهما بحق الآخر في الكلام، ويعترف كلاهما للآخر بأنه ممثل شرعي لطرف ما، بينما الرئيس لا يرى أي طرف ندا له، ولا يعترف بأي ممثل للشعب غيره).

وقد لا نحتاج أيضا إلى التذكير بأن الرئيس لا يعتبر الاستشارة (أو الحوار الوطني العمودي) إلا شكلا من أشكال الاستئناس بالإرادة الشعبية؛ التي سبق لها أن فوضته تفويضا مطلقا ونهائيا وغير قابل لـ"سحب الوكالة" منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي. وهو ما يعني أن الرئيس لن يعتبر فشل الاستشارة أو فشل الاستفتاء طعنا في شرعيته، ولن يدفعه ذلك إلى التراجع عن مشروعه ما دام قادرا على استثمار ضعف خصومه وتشتتهم من جهة أولى، وما دام -من جهة ثانية- مقبولا لدى الجهات المانحة والقوى الدولية النافذة التي ترى في مركزة السلطة وغياب الديمقراطية -رغم بياناتها الرافضة للانقلاب على الديمقراطية والمتخوفة من عودة الدكتاتورية- فرصة ذهبية لتمرير إملاءاتها التي تسمى مجازا "إصلاحات اقتصادية".

twitter.com/adel_arabi21