آراء ثقافية

ملامح "القوطية" في الأدب العراقي بعد الاحتلال

حسن بلاسم أديب عراقي

"إننا نعيش في أزمنة قوطية"(1)


تعود القوطية إلى منتصف القرن الثامن العشر إذ صدرت أول حكاية قوطية في إنجلترا، في قلب عصر التنوير، وتدور أحداثها في العصور الوسطى. يتخلل الظلام الأجواء والأوضاع المزاجية في هذا النوع؛ اللاعقلانية، والخرافة، والخوف، والانحراف، من بين الخصائص الرئيسة في الخيال القوطي. زخر الأدب القوطي بالقلاع المتهدمة المهجورة، وأديرة الرهبان وحياتهم، والأقبية المثيرة للقلق والانزعاج، ومشاهد ترتبط بالظلام والأشباح، كما انتشر الشعر المرتبط بالمراثي الجنائزية والمقابر. إن أبطال النصوص القوطية سلبيون، ومن الممكن أن يكونوا أشرار أو متسلطين. تكشف الأماكن والشخصيات والتقنيات في النصوص القوطية التفاعل الحركي بين النور والظلام، بين حاضر العقل وماضي الخرافات. 


"إن التأكيد على الحس التاريخي للقوطية أمر مهم في سياق الحديث عن العراق، حيث تتضح التواريخ المكبوتة والمسكوت عنها خلال استخدامات مروعة للعنف، والتي من المفترض أن تلفت الانتباه إلى الطرق التي يطارد بها ضحايا الماضي الحاضر باستمرار".(2)


شهدت السنوات التي تلت 2003 نهضة في الإنتاج الأدبي العراقي الذي حظي باهتمام عالمي وفاز بالعديد من الجوائز. "احتاج الأدب العراقي المعاصر إلى تغيير استراتيجياته الفنية بسبب صعوبة اعتماد الأشكال القديمة من الأدب الذي استخدم في العراق قبل الغزو، لكن هؤلاء الكتاب لم يكتبوا بمعزل عن العقود السابقة، بل باعتبار ما بعد 2003 تتويجًا لسنوات سابقة من الحكم الوحشي، الذي شمل حرب إيران 1980-1988، وحرب الخليج 1991، وسنين الحظر الطويل في التسعينات، والتي شهدت فقرًا ومجاعات وهجرات من البلاد.(3)


"إن العنف الذي يشهده الواقع العراقي، وعودة العداوات الطائفية، وصعود التعصب والجماعات الإرهابية، من الأمثلة القليلة على عناصر إثارة الخوف التي يحتاجها النوع القوطي لتغذية خيال جيل جديد من الكتاب العراقيين، والرواية التي يكتبونها تقف أمام الرواية الزائفة عن التقدم التي بشر بها التدخل العسكري الأمريكي".(4)


اختار كثير من الكتاب العراقيين المعاصرين النمط القوطي في الكتابة، ومنهم أحمد سعداوي، وسنان أنطون، وحسن بلاسم. فمن خلال استخدام القوطية استطاعوا الكتابة عن الأزمة السياسية والمعاناة التي يعيشها العراقي في نصوص تجمع بين الألم والخوف لتأريخ لحظات المأساة، ولترجمة الرعب من الواقع ونقله إلى الأدب. إن حياة ما بعد الرعب التي تصوره كتاباتهم من قطع رؤوس وتعذيب وانفجارات تظهر من خلال المطاردات، سواء في الكوابيس، اللاوعي، الجنون، أو الوحشية، من العناصر الأدبية القوطية في الخيال العراقي.


حسن بلاسم قاص وشاعر وكاتب سيناريو من مواليد 1973 يقيم في  فنلندا، له كتب عديدة في الشعر والسينما والرواية الخيالية، وقد ترشحت مجموعته القصصية "مجنون ساحة الحرية" لجائزة الإندبندنت لأدب الخيال العلمي 2010، وجائزة فرانك أوكونور العالمية 2010. صدرت "معرض الجثث" بأكثر من عشر لغات عالمية، وقد قالت صحيفة الغارديان عن بلاسم: "ربما يكون أفضل كتاب الخيال العربي الباقين على قيد الحياة".

 

وقد وصفت جريدة وول ستريت المجموعة بأنها "مجموعة متألقة ومقلقة، ذات مرارة، والقصص فيها تبدو من قطعة لحم ممزق من تاريخ متقيح للبلاد". معرض الجثث مجموعة مكونة من 25 قصة خليط من الواقع والخيال، يصور فيها الواقع العراقي بطريقة مرعبة. يوظف بلاسم خياله مع الواقع المرير الذي عاشه وما زال يعيشه العراق ليبدع مجموعة قصصية غنية ومهمة للدراسة، كما أن عددًا من قصص هذه المجموعة عرضت على مسارح عالمية مثل قصة المسيح العراقي.


تعد أعمال بلاسم من أهم الأمثلة على توظيف الخيال القوطي في الأدب العراقي، فقصصه تحتوي على صور تثير الجماليات القوطية، وكلها مليئة بصرخة الرعب والظلام والهروب من العنف والقسوة لمواجهة أهوال الطبيعة، كما يتميز خيال بلاسم بالنهايات المأساوية. يظهر بلاسم اهتمامًا خاصًا بعالم الإجرام، حيث تمارس شخصياته جميع أشكال القتل، واستغلال الحجج الدينية، أو المشاركة في المنظمات المتطرفة التي لا يمكن للعقل الطبيعي تخيلها.

 

اقرأ أيضا: "نعم جودو" تفوز بجائزة مهرجان العراق الوطني للمسرح (شاهد)

تتجلى ملامح الرعب في الواقع العراقي من خلال قصة "معرض الجثث" التي عنون بها بلاسم مجموعته، والتي تدور حول مجموعة من الميليشيات المتخصصة في العمل على قتل وترهيب المدنيين. يتقدم راوي القصة للعمل في مؤسسة للقتل، وينصت لأحد المتخصصين في المؤسسة كي يتعلم الطريقة الأفضل ليكون قاتلًا محترفًا. "بعد دراسة ملف الزبون تكون ملزمًا بتقديم نبذة مختصرة عن الطريقة المقترحة التي ستقتل فيها زبونك الأول وطريقة إشهار جثته في المدينة".(5)

 

ينبغي على وكلاء المجموعة أن يتمتعوا بقدرة فنية عالية يظهرون من خلالها الجمال والإبداع في القتل وعرض الضحايا. عبر حديث طويل يقدم المتخصص للراوي، بنبرة أستاذية مرعبة، طرقًا إبداعية لإنتاج الإرهاب من خلال القتل وعرض الجثة. "خذ مثلًا العميل الأصم إنه هادئ وله عين ذكية صافية.

 

وأكثر أعماله الفنية القريبة من قلبي هي تلك المرأة المرضعة. في صباح شتائي ممطر. كان جمع من المارة وسواق السيارات ينظرون إلى تلك المرأة العارية البدينة، وهي ترضع من ثديها الأيسر طفلها العاري أيضًا... لم يكن هناك أي أثر لجرح أو رصاصة، لا في جسد المرأة، ولا في جسد الطفل. كانت تبدو كأنها حية هي وطفلها تمامًا".(6)

 

يعرض علينا صورة أخرى تثير الرعب والقرف لجسد أحد العملاء الذين حاولوا التلاعب مع المجموعة فما كان منهم إلا يشهروا جثته التي مثلوا فيها بأبشع الطرق. "أمام وزارة العدل، كانت هناك منصة مثل منصات تماثيل المدينة، مشيدة من عجينة اللحم والعظام. فوق المنصة ينتصب عمود من البرونز، علق عليه (المسمار) المسلوخ كاملًا ببراعة كبيرة. كان يرفرف مثل علم نصر. وكان يمكنك أن ترى بوضوح في الجزء الأمامي من المنصة العين اليمنى للمسمار مثبتة في عجينة لحمه".(7)

 

بعد إكمال المسؤول حديثه مع بطل القصة، وبعد سرده المرعب لطرائق التمثيل بجثث المدنيين، يقترب منه ويطعنه وهو يرتجف.

 

تمثل القصة السابقة الحياة الفوضوية التي عاشها الشارع العراقي بعد الغزو، فقد أصبح العراق مكانًا يغيب فيه القانون، لذلك فهو يقدم فرصة للقتلة حتى يزدهر عملهم. يقدم الكاتب رؤية مختلفة للفن في زمن الحرب، تبحث هذه الجماعة عن عملاء يمكنهم التعامل مع الجسد البشري كمادة فنية، رافضين أن يقدم أحدهم عمله على جثة ميتة بل لا بد من أن تقتل شخصًا وتبدع في قتله ثم في عرض جثته. لا قيمة لحياة العراقي، إذ تكمن قيمتهم في موتهم وطريقة عرض أجسادهم. تختلف المجموعة التي ينتمي لها المختص عن الإرهابيين فهم يقدرون الضحايا، ولهذا يجب تقدير عملهم كما ينبغي. "هذه قصة غنية بصور الألم والموت والإرهاب. إنها تقدم صورة مثالية للتناقضات؛ إذ يظهر العالم الداخلي للمجموعة كمجتمع مثقف يقدم العناية الدقيقة للمنتسبين إليه، وفي الوقت نفسه حولت هذه المجموعة العالم الخارجي إلى كابوس".(8)


لم تقتصر المجموعة على تصوير حياة الرعب والقتل في الواقع العراقي، بل اشتملت على قصص لأشخاص هاجروا وتركوا وراءهم الماضي، إلا أن الماضي لم يتركهم وبقي يلاحقهم في واقعهم الجديد. عادت مكبوتاتهم على شكل أشباح تلاحقهم، وأمراض نفسية، وكوابيس تقض مضاجعهم.


المراجع:

 

(1) Angela Carter, “Burning Your Boats: The Collected Short Stories,” First edition (USA: Penguin Books, 1997), Appendix “Afterword to Fireworks.”


(2) Bahoora, H. writing the dismembered nation: the aesthetics of horror in Iraqi narratives of war, p192


(3) Bahoora, H. writing the dismembered nation: the aesthetics of horror in Iraqi narratives of war, p189

 

(4) المرجع السابق، ص192  

 

(5) بلاسم، حسن. معرض الجثث ص 69 

 

(6) المصدر ذاته ص 71 

 

(7) المصدر ذاته ص 74 


(8) Hamed, E. Gothic is the New Iraq. (2020) Chicago, Illinois, p99