مقالات مختارة

ما الصور اللافتة في مونديال قطر؟

.
قيل الكثير عن مونديال قطر، وكُتب أكثر عن هذا الحدث الرياضي العالمي، لكن الصورة الأبرز في هذا المحفل الرياضي، هي النجاح المنقطع النظير في صنع النموذج الجاذب، باستخدام القوة الناعمة.
في العلاقات الدولية تُصنّف القوة الناعمة على أنها القدرة على الاستمالة، في حين تُصنّف القوة الصلبة على أنها القدرة على تحقيق المصالح بالإكراه. وما بين الإكراه والاستمالة، هنالك بون شاسع في عالم السياسة. وعلى الرغم من أن القوتين هما تحت تصرف صانع القرار السياسي، وتعتبران جزءا مهما من أدوات صنع السياسة الخارجية، إلا أن مقياس المهارة السياسية يأتي بما يحققه صانع القرار من مصالح بالقوة الناعمة، وليس بالقوة الصلبة. فيشار إلى تلك الدولة بأنها ماهرة في استخدام قواها الناعمة، لتحقيق التعاون الإيجابي في محيطها وخارج المحيط أيضا، وأن تكون في وضع أفضل وقدرة أكبر، في مواجهة حالات عدم اليقين السياسي والاضطراب الجيوسياسي.

وتتميز القوة الناعمة بتجنب استخدام الأدوات التقليدية في العلاقات الدولية، وتسعى بدلا من ذلك إلى استثمار الموارد المتاحة، لبناء نماذج جاذبة تكون صلات وصل وشبكات تواصل مع الآخرين، بما يجعل البلد كيانا جاذبا ونموذجا يحتذى به. وكم من دولة صغيرة في القياسات الجغرافية امتد نموذجها الجاذب ليغطي على خرائط الاخرين الكبيرة، في حين عجز من هم أكبر منها مساحة وأكثر سكانا عن تحقيق ما حققته. فما الملامح السياسية الناجحة التي حققها صانع القرار السياسي القطري من المونديال؟ يمكن القول بأنه بقدر ما أثار هذا المهرجان الرياضي الكوني، على مستوى التنظيم والتجهيز والاستعداد من انتباه لدى الكثيرين، بقدر ما ألقى حزمة ضوء ساطعة على استثمار سياسي لهذا الحدث، بانت ملامحه في الأروقة العلنية وربما السرية أيضا، فكانت صورا لافتة يمكن وصفها بأنها نجاحات دبلوماسية قطرية.

الصورة الأولى، كانت المصافحة بين الرئيسين المصري والتركي، التي لم تحدث منذ عقد من الزمن. وهي تشي بأن الواقعية السياسية قد عادت إلى العلاقات بين الطرفين، وتم تغليب المصالح الاستراتيجية على الاعتبارات الأيديولوجية، فعلى الرغم من أن صانع القرار التركي انتهج سياسة جديدة قائمة على تصفير المشاكل، وسعى إلى فتح قنوات علاقات جيدة مع مصر، بعد أن عزز علاقاته مع كل حلفاء القاهرة في المنطقة، وبعد أن أرسل رسائل إيجابية إليها، تكللت بلقاءات على مستويات أدنى من قمة الهرم السياسي، وتنسيق استخباراتي واسع، لكن لقاء القمة لم يحدث، ما أعطى المسؤولين الأتراك شعورا، بأن القاهرة ليست لديها الاندفاعة نفسها التي لديهم، وأن العلاقة بين أنقرة والقاهرة ربما ستأخذ وقتا طويلا قبل أن تصبح علاقات طبيعية. وهنا يبدو أن الاستثمار القطري عبر الرياضة تحرك لكسر هذا الجمود، والتأسيس لفكرة أن اللقاء يمكن أن يتم خارج إطار المحضورات، بصفة أن تركيا كانت العدو الأول لمصر، وأن مصر كانت تعتبرها المحرك الأول لخلق حالة من عدم الاستقرار، بعد إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي عن الحكم. فهل الدوحة قادرة على الانطلاق من صنع لقاء المصافحة إلى تبريد الملفات الساخنة بين القاهرة وأنقرة؟ يقينا أن قطر هي اللاعب الأساسي في المعادلة المصرية التركية بعد لقاء المصافحة، وهي وحدها من تستطيع التحرك ضمن هذه المساحة، وتجسير الخلاف القائم بين الدولتين. يأتي هذا اليقين من أن الدوحة استطاعت أن تنجز علاقة مميزة مع القاهرة، وأن تستخدم قواها الناعمة التي ساعدت في بناء حالة من الثقة في هذا الإنجاز. كل ذلك انعكس في لحظة معينة على قدرة صانع القرار القطري في طرح رؤية مقبولة من جميع الأطراف. وبالتالي انطلاق الطموح القطري في التجسير بين الموقفين في ملفات عديدة، وفي تقريب وجهات النظر والانتقال للبحث عن مصالح مشتركة للطرفين المصري والتركي، عبر إعادة بناء العلاقات الثنائية.

أما الصورة الأخرى التي أنتجها الاستخدام الناجح لقوى قطر الناعمة، فكان مشهد اللقاء الذي جمع ولي العهد السعودي بالرئيس الجزائري، الذي يبدو أن الدوحة قد راهنت عليه كي يؤسس لهذه الجزئية، وهي تحسين العلاقة بين الرياض والجزائر، وبذلك يمكن القول بأنه اللقاء الأول الذي يمكّن الطرفين من كسر الجمود أولا، كي يتم التأسيس لاحقا للقاءات أكثر ودية. ويبدو أن الدوحة قد انطلقت في ترتيب هذا اللقاء من علاقاتها التي عادت لتكون مميزة مع الرياض، وأن تستخدم هذا التميز، في جعله فرصة للبحث عن توسيع آفاق هذه العلاقة.

صورة ثالثة حازت أعجاب الكثيرين، وتصدى لها الإعلام بالتحليل والتقرير، وهي ظهور ولي العهد السعودي يضع علم دولة قطر على كتفيه. ويبدو بشكل واضح أن هذا الفعل من جانب ولي العهد، كان رسالة شخصية أراد أن يراها الجميع في هذا المحفل الدولي، وهي أنه يقف في صف قطر، وأنه يعتبر نفسه حليفا أساسيا لها. وهذا يقود للاعتقاد بأن القطريين استخدموا الطريقة نفسها التي يلعبون بها خلف الكواليس في العلاقات الدولية، في ترتيب هذه العلاقة والتأسيس لها من جديد، بعد الحالة التي مرّ بها مجلس التعاون من فرقة وخصومة. وبالتالي أعادوا بناء العلاقة مع السعودية. ويبدو أن صانع القرار في الدوحة يرى أن إعادة بناء العلاقة مع الرياض، تأتي في مقدمة المهمات التي كان يطمح لها. وهي خيار استراتيجي لهم، لأن ذلك يصب في إعادة ترتيب البيت الخليجي، بما لا يمكن معه تكرار ما حدث في المرة السابقة من حصار وخصومة سياسية مع قطر.

يقينا لقد نجحت الدوحة في استخدام المونديال، باعتباره منصة دولية، لعرض ثقافتها وقيمها وتقاليدها وتوجهاتها، كما ذهبت للتركيز على القيم السلمّية التي يحويها مفهوم الرياضة، واستخدمته كوسيلة من وسائل القوة الناعمة لتحقيق أهدافها الدولية، ورفد دبلوماسيتها العامة بمزيد من الطاقة الإيجابية. فكانت ممارسة دبلوماسية كبرى أظهرت فيها قدرة قوتها الناعمة على خرق الحواجز وزيادة الاندماج، والوصول إلى كل بقعة في العالم، وتقديم نفسها على أنها قوة ذات مصداقية، وبالتالي الانطلاق نحو تعزيز دورها كبلد نامٍ في الشؤون الدولية خارج قواعدها الإقليمية. وإذا كانت الدول المتقدمة تخوض منافسات شرسة من أجل الحصول على شرف تنظيم محافل رياضية دولية كهذه، فذلك دليل راسخ على أنه منصة مهمة تطل الدول منها لتقديم قيمها وأفكارها ورؤاها للعالم أجمع، خاصة أن استضافة الأحداث الرياضية الكبرى باتت اليوم أكثر صلة بالاستراتيجيات الدبلوماسية للدول، كما أصبحت الفوائد السياسية الاستراتيجية لهذه الاحداث الرياضية، لا تقل عن الفوائد الاقتصادية المُجناة منها بالنسبة للدول المضيفة.

(القدس العربي اللندنية)