سياسة عربية

ماذا وراء إغلاق القضاء المصري ملف التمويل الأجنبي لـ75 جمعية أهلية؟

الإعلان أثار آمال المتفائلين حول ما قد يتبع قرارات رفع المنع من السفر والتحفظ على الأموال- جيتي
في تطور حقوقي لافت، قررت السلطات القضائية المصرية حفظ التحقيقات في القضية المعروفة إعلاميا بـ"التمويل الأجنبي" لمنظمات المجتمع المدني، مع 75 من الجمعيات الأهلية العاملة في مصر إلى جانب 43 حقوقيا شملتهم تحقيقات دامت 12 عاما.

القرار لاقى قبولا كبيرا بين مراقبين ونشطاء، ومتحدثين لـ"عربي21"، خاصة أنه مع صدور أوامر حفظ التحقيقات يتم إلغاء كافة قرارات المنع من السفر السابقة أو الوضع على قوائم ترقب الوصول أو التحفظ على الأموال الصادرة في هذه التحقيقات، ما اعتبره البعض خطوة من رأس النظام تسبق رئاسيات 2024.

إلا أن البعض عاب عليه تأخره لسنوات طويلة، بجانب عدم تحديد أسماء الجمعيات الصادر بحقها تلك القرارات وتلك التي لم ينته التحقيق بحقها بعد، بجانب عدم إزالة ما تم تشويهه من سمعة بعض الجمعيات والعاملين بها، في وسائل الإعلام المصرية التي حملت اتهامات بالعمالة والخيانة.

ومع ذلك فإن الإعلان أثار آمال المتفائلين حول ما قد يتبع قرارات رفع المنع من السفر والتحفظ على الأموال، من قرارات أخرى، بتيسير عمل منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية في مصر.

"تسلسل القضية"

وقضية التمويل الأجنبي، إحدى أطول القضايا التي بقيت منظورة أمام القضاء المصري، وكانت الملف الأشهر الذي تفجر في عهد المجلس العسكري الحاكم في مصر (2011- 2012) عقب ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، والإطاحة بالرئيس حسني مبارك.

وفي 26 شباط/ فبراير 2012، نظرت محكمة "جنايات القاهرة" أولى جلسات القضية وتولت التحقيق في اتهام 85 جمعية أهلية عاملة في مصر بالحصول على تمويل خارجي بلغ 60 مليون دولار.

حينها وجهت الاتهامات إلى 14 ناشطا مصريا في مجال العمل الأهلي، بجانب 19 أمريكيا و5 صربيين وألمانيين و3 عرب من لبنان وفلسطين، كانوا يعملون في 68 منظمة حقوقية وجمعية أهلية بالبلاد بدون ترخيص، بحسب الاتهام، الصادر من جهات التحقيق بوزارة العدل في تشرين الأول/ أكتوبر 2011.

ومع ضغوط أمريكية سمحت السلطات التنفيذية في القاهرة بسفر أغلب المتهمين الأمريكيين بالقضية إلى واشنطن، بعد قرار قضائي برفع حظر مغادرتهم مصر في 29 شباط/ فبراير 2013.

وأسدلت "جنايات القاهرة"، لاحقا الستار عن القضية في شقها الأجنبي ببراءة جميع المتهمين مع مواصلة التحقيق في الشق الخاص بالمنظمات المحلية.

وفي حزيران/ يونيو 2014، قضت المحكمة، بمعاقبة 27 متهما غيابيا، بالسجن 5 سنوات من بينهم 18 أمريكيا، والباقون من جنسيات مختلفة جميعهم مسؤولون بفروع منظمات أجنبية في مصر.

وقضت بمعاقبة خمسة آخرين حضوريا بالحبس سنتين منهم أمريكي وألمانية وثلاثة مصريين، وبمعاقبة 11 متهما مصريا آخرين حضوريا بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وتغريم كل متهم ألف جنيه.

وبعد 5 سنوات من الحكم، قبلت محكمة النقض في شباط/ فبراير 2019، الطعن المقدم من المحكوم عليهم في القضية، وقضت بإعادة المحاكمة.

وقررت محكمة "استئناف القاهرة"، بإنهاء الشق الأجنبي من القضية بإلغاء حظر السفر المفروض على المتهمين الأجانب في القضية بعد دفع كفالة مليوني جنيه لكل منهم، وغادر 9 أمريكيين و8 من جنسيات أخرى مصر على متن طائرة أمريكية خاصة.

"الشق المحلي"

وتبقى الشق المصري من القضية قائما، حيث إنه تم فتح التحقيق في القضية مجددا في آذار/ مارس 2016، فيما صدر قرار قضائي بمنع النشطاء حسام بهجت وجمال عيد وأسرتيهما و5 آخرين من التصرف في أموالهم.

وفي 17 أيلول/ سبتمبر 2016، جرى ضم النشطاء بهي الدين حسن، ومصطفى الحسن، وعبدالحفيظ طايل، لقرارات المنع السابقة، ليجري ضم أسماء الناشطتين عزة سليمان، ومزن حسن، مع قرار بمنعهما من السفر عام 2017.

وطالت القرارات أيضا المحامي محمد زارع، والنشطاء؛ إسراء عبدالفتاح، وعلاء الدين عبدالتواب، وأحمد غنيم، وأحمد راغب، ومالك عدلي، وناصر أمين، وهدى عبدالتواب، وحسام الدين أحمد.

وفي وقت لاحق أصدر قاضي التحقيقات في القضية قرارا بأنه لا سند لإقامة الدعوى الجنائية بحق 20 منظمة مجتمع مدني، لانتفاء الجريمة وعدم كفاية الأدلة، بجانب تبرئة 18 منظمة أخرى في 2021.

وأمس الثلاثاء، وبعد نحو 12 عاما صرح قاضي التحقيق المنتدب حديثا من محكمة استئناف القاهرة بالقضية، بأنه تم الانتهاء من التحقيق لـ75 منظمة، وصدرت لها أوامر بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية (أوامر حفظ)، موضحا أنه جاري الانتهاء من التحقيق بحق 10 منظمات أخرى.

لكن إعلان القاضي الجديد حفظ التحقيقات في أغلب القضايا ورفع قرارات منع السفر والتحفظ على الأموال، يثير التساؤل حول دلالات قرار نظام السيسي ودوافعه وتوقيته، خاصة أنه يأتي قبيل انتخابات الرئاسة المقررة مطلع 2024.

ويثير التساؤل حول مدى اعتباره مناورة من نظام السيسي، لإرضاء الغرب الغاضب من هذا الملف، من جانب، ولتهدئة حالة الغضب بين النشطاء في ملفات أخرى سياسية واقتصادية وأمنية، من جانب آخر.


"خطوات تجميلية"

وفي رؤيته، قال الحقوقي المصري هيثم أبوخليل، لـ"عربي21"، إنها "خطوات تجميلية محسوبة بدقة لا تغضب القوى الإقليمية الداعمة لنظام السيسي، والتي تدعم قهره للمصريين عامة والإسلاميين خاصة".

وأضاف: "وتذر الرماد في العيون بعض الشيء، وترفع الحرج عن القوى العالمية التي يتوجه اللوم لها على دعم نظام مستبد استئصالي".

ويرى أنها "بالطبع لها علاقة بقرب مسرحية الانتخابات الرئاسية، والتي أزعم أن الانتهاكات فيها ستفوق ما يحدث في مصر من انتهاكات على كافة المستويات"، مشيرا إلى أنه "حتى الآن لم نر موقفا عالميا جادا أو رغبة في أن تحدث انتخابات حقيقية في مصر".

وفي نهاية حديثه قال: "ربما تحدث خطوات أخرى في هذا الصدد، ولكن دون التعامل مع عشرات الآلاف من المعتقلين الإسلاميين"، مؤكدا أنه "لن يتم التعامل معهم مطلقا أو إحداث انفراجة معهم، لأن هذا مسوغ لاستمرار السيسي في منصبه".

"تجريف وتكبيل"

وعلى مدار حكم السيسي، -منذ 2014- جرى تجريف العمل الاجتماعي ووقف الكثير من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني وغلق مقراتها وحبس العديد من النشطاء.

وجرى إصدار "قانون الجمعيات الأهلية" المثير للجدل والمكبل للعمل العام، والذي يقر حبس العاملين بالجمعيات عام 2017، والذي جرت عليه تعديلات في تموز/ يوليو 2019، بينها إلغاء عقوبة الحبس.

إلا أن القانون الجديد وضع إطارا يحد من عمل منظمات المجتمع المدني، حيث يرفع بعض القيود ويضع غيرها، ويجعلها متهمة طوال الوقت تحت مسميات من قبيل "الإخلال بالنظام العام" أو "الآداب العامة" أو "الوحدة الوطنية" أو "الأمن القومي"، وفق تقرير سابق لـ"عربي21".

"تبعية القضاء"

وفي تقديره، قال الباحث المصري في الشؤون القانونية عباس قباري، إن "هذا الخبر من وجهة نظري، يتضمن زاويتين على درجة كبيرة من الأهمية، تتمثل الأولى في ترسيخ صورة نمطية عن القضاء المصري باعتباره تابع لتوجهات السلطة ويقدم دعمه الدائم لها في شراكة مستمرة".

وفي حديثه لـ"عربي21"، تساءل: "ما معنى الالتفات المفاجئ لقضية استمرت 12 عاما في مرحلة التحقيقات، ومن ثم تعيين قاض للتحقيق ليقوم فجأة بحفظ التحقيقات ويصدر قراره بألا وجه لإقامة الدعوة".

وأضاف: "وهو ما أكدته وزارة العدل فورا وشرعت في تنفيذ القرار، وأصدرت بيان رسمي تعقيبا على ذلك، وهو ما يعطي انطباعا سلبيا عن المنظومة القضائية، إذ ما الداعي لخطوات قضائية طوال هذه السنوات عطلت فيها حسابات ومنعت شخصيات من السفر، ثم انتهت إلى لا شيء".

الزاوية الثانية، من وجهة نظر الباحث المصري "تكمن في سعي النظام لتوفير أجواء تساعده على تجاوز الظرف الذي يمر به، واستعداده لإعادة إنتاج نفسه ليناسب ظروف الانتخابات التي يسعى لإقامتها، واحتياجه لتبريد بعض الملفات".

وبين أن ذلك "عبر إصدار قرارات عفو عن سجناء، أو إغلاق بعض القضايا ضد جهات بعينها، وهو ما يمثل استجابة لمطالب شركاء يحتاجهم وقت مروره بمنعطف سياسي، ثم سرعان ما ينقلب عليهم بعد أن تمر العاصفة، وهو ما تكرر منه في فترات مماثلة".

"لا يقدم جديدا"

وفي قراءته لبيان المحكمة وما يتبعه من قرارات، قال الحقوقي المصري، محمد زارع، إن "القرار الصادر الثلاثاء، والتطور الهام في القضية المفتوحة منذ 2011، ولم تغلق إلى اليوم من وجهة نظري لا يقدم جديدا، فمازال التحقيق قائما بحق 10 منظمات".

رئيس "المنظمة العربية للإصلاح الجنائي"، وأحد الأشخاص الموجودين ضمن العشرة منظمات التي لم يتم انتهاء التحقيق بحقها، أكد في حديثه لـ"عربي21"، أنه "لا يعرف ما هو التطور الذي يتحدث عنه قاضي التحقيق، بقوله إن القضايا في مرحلتها الأخيرة، ورغم أنني أتمنى ذلك، ولكن هذا كلام نسمعه منذ سنوات".

نائب رئيس الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان سابقا، أضاف: "أرى باعتباري في إحدى القضايا، أن 12 عاما تكفي، ولابد من إنهاء التحقيقات"، مشيرا إلى أنه "إن كانت هناك عدالة في القضية لكنها عدالة بطيئة".

"12 عاما تعطل"

وانتقد غياب المعلومات حول المنظمات التي حفظ التحقيق بحقها وتلك التي لم ينته التحقيق في ملفاتها، معتبرا أن "البيان غير واضح"، متسائلا عن "الإجراءات التي يقوم بها القضاء الآن في قضية عطلت العمل المدني بالبلاد 12 عاما".

وأكد أن "الـ85 منظمة لم ترتكب مخالة، وعملت بعلم الدولة والأجهزة المصرية"، موضحا أن "الموضوع له علاقة بأحداث مصر منذ ثورة يناير 2011، واعتقاد الجهات الأمنية أن للجمعيات الأهلية دور بالثورة، رغم أنها تعمل بعيدا عن السياسة".

وانتقد ذراع "تعرض المجتمع المدني للتنكيل منذ العام 2011، ومنع الجمعيات والمنظمات من العمل والسفر والتحفظ على أموال الجمعيات والعاملين بها، وتشويه سمعتهم بالفضائيات باتهامات العمالة والخيانة".

وفي رؤيته لدوافع قرار نظام السيسي بغلق الملف مع 75 جمعية قال إن "البيان حصيلة ما تم بالسنوات الماضية، وليس قرارا تم اتخاذه الثلاثاء بحق ذلك العدد، ولكنه يمثل بيانا إحصائيا للتحقيقات بالسنوات الماضية".

"نوايا النظام"

وحول مدى اعتباره الأمر، مناورة من النظام لإرضاء جهة أو أشخاص أم أنه تصرف ذاتي، أكد أن "ما يهمنا هو غلق هذا الملف، ولكن ربما يكون السيسي، يستعد لولاية جديدة وربما أراد بدء صفحة جديدة، وفي كل الأحوال النوايا صعب الوصول إليها".

وأشار إلى أن "القرار تأخر كثيرا والمجتمع المدني عانى كثيرا بالفترة الماضية من هذه الإجراءات، ولو تم غلق الملف بالنسبة لـ85 منظمة وليس 75 فقط، فأظن أن هذا تصحيح لوضع سيئ الكل عانى منه".

وحول ما قد يتبع القرار من قرارات أخرى بتيسير عمل المنظمات، قال زارع: "ليس لدى تصور كيف يفكر النظام، ومع ذلك فلم نر منه شيئا يحدث للنهاية، حتى الإفراج عن مساجين سياسيين يتم بالقطعة لا يتم بقرار يمكن أن نسميه منهج أو أسلوب يتم تعميميه".

وأكد أنه "ليس هناك شيء منهجي واضح يغلق هذه الملفات ويوقف قرارات الحبس الاحتياطي وييسر عمل المنظمات الأهلية ويطلق الحياة الحزبية، وهناك تردد شديد في اتخاذ قرارات ذات أهمية واضحة".

ولفت إلى أنه "من وقت لآخر يقدم بعض التيسيرات التي تشير لعمل تحسينات جزئية بطيئة لكنها موجودة، وفي النهاية لا نعرف طريقة تفكيره هل هو امتصاص غضب أم تحسينات بسيطة أم منهج، وهو ما لا أظنه، ولكن نتمناه في المستقبل".

"أهمية تلك المنظمات"

وفي رؤيته لأهمية عمل منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية للمصريين والذي كانت ستقدمه لهم في ظل أزماتهم الحالية وحرمهم نظام السيسي منها، أوضح أنه "في كل العالم مجتمع مدني يقدم خدمة ودور مهم وله تخصصات مختلفة كتقديم خدمات أو توعية أو تدريب وبحوث ودراسات".

وأكد أنه "كلما كانت الدولة متقدمة قدم المجتمع المدني شيئا راقيا، عكس الدول التي لديها مشاكل بملف الديمقراطية فلا تسمح لأحد بالتدخل بينها وبين الشعب، خاصة أن المجتمع المدني وسيط يقدم خدماته يحاول يكمل النواقص ويقوم بالتوعية والدفاع ورفض الانتهاكات".

ويرى أن "هذه الأدوار في العالم الثالث غير محبوبة، لذلك فإن المنظمات تتعرض للتنكيل بسبب ما تقدمه من خدمات قانونية لمساعدة المواطنين وما تقوم به من أدوار قد لا تريدها الدولة".