قضايا وآراء

تحطيم نشوة "النصر" على فلسطين ومقاومتها

- جيتي
تحاول البروباغندا الصهيونية الاستفادة من الدعم الهائل الذي توفره دعاية وسائل الإعلام الغربي والأمريكي المنسجم معها، والذي وقع في نفس الحفر المظلمة والمخجلة منذ عقود في حمى الإسلاموفوبيا ومكافحة الإرهاب، واليوم في شعار مخاطر "حماسوفوبيا" لإثارة شهية غربية وصهيونية للابتعاد شيئاً فشيئاً عن أسس الصراع في المنطقة العربية، وفي القلب منها قضية فلسطين، ومقاومة أصحاب الأرض فيها المشروعَ الاستعماري الصهيوني المقام على أرضهم منذ النكبة الأولى عام 1948، ثم احتلال بقية فلسطين في حزيران 1967، ثم توالت التواريخ المؤسسة لمشاريع التمدد الاستعماري والاستيطاني في بقية المدن الفلسطينية مع بداية "عهد السلام" في مدريد 1991 وأوسلو 1993، ومثّل الضربة على مستوى الطموح التاريخي العريض في مشروع المقاومة وحركة التحرر الوطني الفلسطيني.

لكن عملية "طوفان الأقصى" وقدرة حركة "حماس" وذراعها العسكري كتائب القسام على تحطيم الصورة الاستعمارية لإسرائيل المتفوقة بكل شيء على أصحاب الأرض ومحيطهم العربي كما تسوق الدعاية الغربية عنها، أصابت العالم كله وخصوصاً الولايات المتحدة والغرب بحالة ذهول وصدمة من الصفعة التي تلقاها مشروعهم الاستعماري الصهيوني، وظهوره لأول مرة بحالة العجز المؤدي يوماً ما إلى هزيمة محققة إن تغيرت الظروف والمعطيات السائدة حتى لو كانت قليلة.

ضربة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر شكلها الأول عسكري، إلا أنها ستأخذ الشكل الاجتماعي والسياسي والفكري في فترات لاحقة، بغض النظر عن مآل جولة العدوان الأخير على غزة، فيكفي أنها أظهرت المفاجأة الكبيرة للمقاومة الفلسطينية التي يحاول الجميع تحطيمها

فضربة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر شكلها الأول عسكري، إلا أنها ستأخذ الشكل الاجتماعي والسياسي والفكري في فترات لاحقة، بغض النظر عن مآل جولة العدوان الأخير على غزة، فيكفي أنها أظهرت المفاجأة الكبيرة للمقاومة الفلسطينية التي يحاول الجميع تحطيمها.

الهوس الأسطوري بربط المقاومة بالإرهاب، كان ديدن القوى الاستعمارية على مر التاريخ، وفي الحالة الفلسطينية طرأ تبدل كبير في المواقف بعد عملية طوفان الأقصى، ظهر خوف كبير من الضربة التي وجهتها المقاومة لإسرائيل، فتوقفت الصورة والتاريخ على تخوم غلاف غزة عند القوى الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، أصبح هذا التاريخ (السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023) كمبتدأ لبروباغندا جديدة قديمة تُقدم رؤية للمنطقة المبتلية بـ"إرهاب حماس" لا بإرهاب الاحتلال ووجوده فوق ما تبقى من أرض الفلسطينيين لتهويدها، ومحاصرتهم وقتلهم دون أن يكترث العالم، فالقضية معروفة ببيانات القلق مما يجري في المنطقة ومعروفة أكثر بالنفاق الهائل والكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بضحية فلسطيني وآخر صهيوني.

هذا الهوس وصل لبعض الأصوات العربية في عواصم التطبيع التي بدت مستاءة من "بربرية شنيعة" من حماس، ولم تصب بقشعريرة مقتل آلاف الأطفال في قطاع غزة، ولا قتل النساء وعملية التدمير الممنهج التي يقوم بها الاحتلال من خلال الاستهداف المنظم لأحياء المدنيين، وتدخل في تصنيف الإبادة الجماعية وجرائم الحرب واستهداف المشافي والمدارس مع كل البنى المدنية للسكان، ولم تطالب برفع الحصار ووقف العدوان فوراً.

يمكن أن يفهم المرء في بعض الأحياء جذور بعض المواقف الغربية وعودتها للعزف على وتر الحروب الصليبية أو الضخ في الخطاب الديني كتبرير للاصطفاف مع الاحتلال كـ"صهيوني" أو "يهودي" كما عبر بايدن ووزير خارجيته بلينكن، لكن لا يُفهم تبدل مواقف عربية رسمية تستعير مفردات صهيونية لتوصيف الشعب الفلسطيني ومقاومته؛ إلا لنفس الأسباب التي جعلت القوى الغربية في حالة استنفار منقطع النظير لحماية المشروع الاستعماري الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي، والتي دفعت الرئيس الفرنسي ماكرون لتقديم اقتراح إنشاء تحالف دولي لمحاربة "حماس" على غرار التحالف المقام لمحاربة تنظيم "داعش".

ومحاولة الربط بين حماس وبين تنظيم داعش كانت منذ اللحظة الأولى للعبور، لكنها لم تواجَه بخطاب عربي يعترف ويقر بأن للفلسطينيين حركة مقاومة، وحماس هي أحد أطرافها ولها حضور في المجتمع الفلسطيني وتمثيل برلماني وخاضت انتخابات في الهيئات التشريعية والطلابية وغيرها وفازت بكثير من المقاعد.

ولا ننسى الموقف الأهم الذي كان على السلطة الفلسطينية أن تأخذه برفض هذا التصنيف والهجوم على حركة حماس "الإرهابية" على اعتبار أن أي حركة مقاومة وتحرر وطني للاحتلال هي حركة "إرهابية" وفق منطق المستعمر ومنطق القوى التي تدعمه.

لكن بعد كل هذه البروباغندا التي استعرت منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحاول العالم الغربي أن يقف متحداً خلف مشروعه الاستعماري في فلسطين، خرجت الأصوات والمواقف في الشوارع الغربية والدولية من واشنطن ونيويورك إلى سيؤول وطوكيو مرورا بلندن؛ رفضاً لسياسة الإرهاب الصهيوني والتطهير العرقي والتمييز العنصري، سقطت الدعاية الصهيونية في البربرية على قطاع غزة وفي الوحشية المنفلتة لعصابات بن غفير ونتنياهو ولمجلس الحرب في الضفة والقدس.

لا أحد يستطيع أن يصف حقيقة إسرائيل وإرهابها في المعسكر العربي والغربي، ليس لأنها أغرب من الخيال في ارتفاع منسوب الدم الفلسطيني، بل لأن أحدا من المعسكرين يحلم بالهزيمة الفلسطينية التي يُمكن أن تؤسس من غزة حسب أوهام الكل، برفع منسوب الدم والحطام إلى أعلى منسوب.. لكن الأصح أيضاً، أنه كلما تأخر الاحتلال باعترافه بالحقوق الفلسطينية وكلما تأخر العالم المتحضر بالتراجع عن سياسة النفاق الاستعمارية وتراجع "السلام" فستكون الأثمان كبيرة

لا أحد يستطيع أن يصف حقيقة إسرائيل وإرهابها في المعسكر العربي والغربي، ليس لأنها أغرب من الخيال في ارتفاع منسوب الدم الفلسطيني، بل لأن أحدا من المعسكرين يحلم بالهزيمة الفلسطينية التي يُمكن أن تؤسس من غزة حسب أوهام الكل، برفع منسوب الدم والحطام إلى أعلى منسوب.. لكن الأصح أيضاً، أنه كلما تأخر الاحتلال باعترافه بالحقوق الفلسطينية وكلما تأخر العالم المتحضر بالتراجع عن سياسة النفاق الاستعمارية وتراجع "السلام" فستكون الأثمان كبيرة، ليس لأن الفلسطينيين قوة عظمى يمتلكون سلاحا فتاكا سيهزمون المشروع الاستعماري عسكرياً، بل لقوة الحق الذي يسانده كل الأحرار في المعمورة ولأن مقاومة إبادته والدفاع عن أرضه وطرد المحتل منها حقوق مشروعة.

فالسلام ليس أمناً واتفاقات تطبيع وتحالفا ومشاريع اقتصادية، ولا هو وقف لإطلاق النار فقط، للسلام أسس لا مناص منها ولا مفر. فدون تفكيك البنية الاستعمارية للمشروع الصهيوني ودون الاعتراف الكلي بحقوق الشعب الفلسطيني ووجوده التاريخي فوق أرضه وبحقه في العودة وبالإقرار بالقوانين الدولية ذات الشأن، فإن البربرية الصهيونية الشنيعة ستبقى مصدراً لكل شر على أرض فلسطين وحولها مهما حاول أعداء فلسطين تزوير وقلب الحقائق؛ وحاول بعض أذناب التصهين القراءة من نفس الرواية الصهيونية لإشاعة هزيمة عربية وكأنهم في نشوة نصر على فلسطين ومقاومتها، لكن الرد مستمر من غزة ومن أرض فلسطين ومن الشوارع الحرة الثائرة في القارات الخمس ومُحطماً لهذه النشوة.

twitter.com/nizar_sahli