صحافة دولية

صحفي بريطاني يفضح تغطية الإعلام الغربي للحرب على غزة.. هكذا وصفها

كوك: المؤسسات الغربية تقوم بالتلاعب بالأولويات الإخبارية بشكل يكشف عن هرمية قلق عنصرية- الأناضول

نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني مقالا للصحفي البريطاني جوناثان كوك يتحدث فيه عن التغطية "غير المهنية" لوسائل الإعلام البريطانية في تغطية أخبار غزة، ومحاولة تهميش الفاجعة الفلسطينية من خلال اختيار زوايا ضيقة للجانب الإسرائيلي، منها إغفال الأنظار عن وفاة الخدج في مستشفى الشفاء.


وقال كوك إنه كان ينبغي أن يكون الخبر الرئيسي في البي بي سي يوم 13 نوفمبر (تشرين الأول) بسيطاً لا يحتاج إلى مجهود فكري. فبينما كان الجنود الإسرائيليون يحيطون بمستشفى الشفاء في شمال غزة ويستعدون لاقتحامه، رفع عشرات المواليد الخدج من حاضناتهم، ووضعوا خارجها، لأن المستشفى لم يعد مزوداً بالكهرباء التي تحتاجها تلك الحاضنات لكي تعمل.

في مقاطع فيديو تقطع القلب، ظهر الرضع معاً وقد جمعوا في ما يشبه القفص، ترتعد فرائصهم من البرد، ما لبث عدد منهم أن قضوا نحبهم.

اظهار أخبار متعلقة


وفي ما يأتي المقال مترجما:

ما كان للمرء أن تفوته رمزية الحدث. فحتى سكان غزة من المدنيين هم أيضاً تجمعوا معاً بعد أن قصفت قوات الاحتلال بيوتهم وحولتها إلى حطام وأمرتهم بأن يتوجهوا جنوباً، وهم في حالة من الانكشاف والاستضعاف تحت وطأة النقمة الإسرائيلية. في تلك الأثناء كانت أعداد متزايدة منهم يلقون حتفهم.

كانت حكاية الرضع تكسر الأفئدة وتبعث على السخط في نفس الوقت. وكانت الأمم المتحدة قد حذرت تل أبيب مراراً وتكراراً بأن ذلك سيكون من العواقب الوخيمة لعقابها الجماعي الذي تنزله بحق سكان غزة، إذ تحرمهم من الوقود الذي يحتاجونه لتوليد الكهرباء. ما كان من الاحتلال بكل بساطة إلا أن تجاهل التحذيرات.

إلا أن محرري نشرة أخبار السادسة مساء في الـ بي بي سي قرروا أن يكون الخبر الرئيسي في تغطية الأحداث الأجنبية ليس الرضع الذين يتعرضون للقتل بسبب حظر إسرائيل للوقود، وإنما خبر من الجانب الآخر من الصراع. لا بد أن ذلك كان واحداً من أسوأ القرارات التي يتخذها محررو الأخبار في تاريخ النشرات الإخبارية على الإطلاق.


 بدلاً من ذلك، بدأت الـ بي بي سي نشرتها باستضافة شقيق رجل إسرائيلي بريطاني قتل أثناء هجوم حماس في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). حينذاك كان قد مر على الهجوم نفسه أكثر من شهر، ولذلك بدا أن الـ بي بي سي نفسها كانت تدرك بأنه لا يبرر إزاحة خبر الرضع الذين يصارعون الموت من صدارة فقرة الأخبار الأجنبية.

كان ثمة حاجة إلى زاوية أفضل: نقلت الـ بي بي سي عن الشقيق قوله إن القلق يساوره بشكل متزايد حول ما إذا كان بقاؤه في بريطانيا آمناً. وأكد التقرير أن هذا الشعور يساور كثيراً من اليهود الآخرين.

والمفارقة هنا هو أن المقصود من هذا التقرير القول إنه لربما كان آمن لليهود البريطانيين أن ينتقلوا للعيش في دولة الاحتلال، على الرغم من مضي أسابيع من التغطية في وسائل الإعلام الغربية بما يؤكد مخاوف الإسرائيليين من انكشافهم وتعرضهم للخطر بعد الهجوم الذي نفذته حركة حماس. هل فعلاً كان يظن هذا الرجل البريطاني أنه لربما كان من الأسلم له العيش في دولة فقد شقيقه فيها حياته في هجوم ضخم وفظيع؟ بالطبع، لم يطرح عليه مراسل البي بي سي هذا السؤال!

هرمية القلق

إذن، ما هي الحجة التي ساقها الشقيق لتبرير ما يساوره من مخاوف؟ قال في حديثه للـ بي بي سي إنه وجد المسيرات التي تنظم في بريطانيا دعماً لغزة مزعجة ومخيفة، ولاحظ أن هتافات مثل "من النهر إلى البحر... سوف تغدو فلسطين حرة" تثبت وجود معاداة للسامية متجذرة في المجتمع البريطاني تسفر عن نفسها بشكل متزايد.


لا تقتصر المشكلة على أن كثيراً من اليهود البريطانيين يفترضون أن بريطانيا لديها مشكلة معاداة سامية، وذلك انطلاقاً من التفسير المريب إلى حد كبير لمعنى ذلك الهتاف، ولكن أيضاً في كون المؤسسات الإعلامية الرئيسية تكرس مثل هذا الفهم الخاطئ، وتتعامل معه كما لو كان أجدر وأحق بالتغطية الإعلامية من قتل الرضع الفلسطينيين، وكل ذلك بمباركة من الحكومة البريطانية.

وهذا نموذج واحد فقط للدلالة على نمط من التغطية التي تمارسها وسائل الإعلام الغربية، إذ يقومون بالتلاعب بالأولويات الإخبارية بشكل يكشف عن هرمية قلق عنصرية، بحيث تصبح المخاوف اليهودية مقدمة على ما يتعرض له الفلسطينيون من موت حقيقي، وحتى حين يتعلق الأمر بموت الرضع.

يصعب على المرء تحمل كل هذا النفاق، والذي بات الحجة المركزية التي يتكئ عليها الإسرائيليون لتبرير جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبونها في غزة. لقد روجت تل أبيب للادعاء بأن حماس قطعت رؤوس أربعين رضيعاً إسرائيلياً يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) – وهي القصة التي نشرت على نطاق واسع كما لو كانت حقيقة واقعة، رغم أنه لم يُقدم لإثبات وقوعها دليل واحد على الإطلاق.

لم تفتأ وسائل الإعلام تعود إلى أحداث يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لأسابيع، في سعي محموم للبحث عن زوايا جديدة تلجأ إليها من أجل الإبقاء على نوع من "التوازن" في الحديث عن معاناة الطرفين. ولكن، وكما هو جلي من تهميش الخبر المتعلق برضع مستشفى الشفاء، كثيراً ما تأتي تغطية المعاناة الإسرائيلية على حساب تغطية أخبار معاناة أشد، وهي معاناة الفلسطينيين في الماضي وفي الحاضر.


على سبيل المثال، في نشرة أخبار البي بي سي يوم العشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) ورد تقرير حول آلام عائلات الرهائن الإسرائيليين، وخُصص له من الوقت ثلاثة أضعاف ما خصص لآلام الفلسطينيين في غزة – وذلك في نفس اليوم الذي قام فيه جيش الاحتلال بشن هجوم على مستشفى آخر، هو المستشفى الإندونيسي، وهمرت فيه على رؤوس المدنيين الفلسطينيين المزيد من القنابل.

والغريب في الأمر أنه عندما تتحدث وسائل الإعلام عن معاناة الرهائن، يندر أن تشير هذه المنصات إلى حقيقة أن أشد الفصول ترويعاً في حياة الرهائن ناجم عن تعرضهم لنفس حملة القصف الإسرائيلية التي يتعرض لها الفلسطينيون.

وهذا التركيز الشديد على معاناة الرهائن الذين تمسك بهم حماس يقابله بشكل صارخ انعدام تام في أي اهتمام، سواء تاريخياً أو حالياً، بالرهائن الذين تحتجزهم دولة الاحتلال: أولئك النساء والأطفال الفلسطينيون الذين عادة ما يتم القبض عليهم من قبل جنود مقنعين في منتصف الليل، والذين يحبسون في السجون الإسرائيلية، حيث يندر أن يسمح لأحد منهم برؤية عائلته.

على الرغم من أن وسائل الإعلام تشير إليهم بلفظة "السجناء"، إلا أنهم يكونون إما إنهم قد سجنوا بدون محاكمة أو إنهم قد تمت محاكمتهم أمام محاكم عسكرية، حيث يكاد يصل معدل ضمان إدانة المتهمين إلى مئة بالمئة.

والأمر الآخر الذي لا يأتي أحد على ذكره هو أن مراسلي الحرب الغربيين، والذين يبدون الاستعداد للمخاطرة بحياتهم في سبيل إرسال التقارير من العراق أو أفغانستان أو سوريا، غابوا تماماً عن غزة، أو تجدهم مرافقين للجيش الإسرائيلي – وليس فقط لأن تل أبيب تأمرهم بالبقاء في الخارج. لو أنهم أرادوا الدخول لوجدوا إليه سبيلاً.


بل ترفض المؤسسات الإعلامية التي يعملون فيها السماح لهم بالدخول لعلمها بأن حملة القصف الإسرائيلية لا تعرف الشفقة، ولا تميز في استهدافها للناس، ولا يمكن للمرء أن يتنبأ بها، ولذلك فهم يدركون أن ثمة احتمالاً كبيراً في أن يتعرض مراسلوهم للإصابة أو للقتل.

كان ينبغي أن تكون تلك الحقيقة جزءاً من التقرير الإخباري. ولكن لو حصل ذلك لانقلب رأساً على عقب إطار السردية الذي تقوم عليه التقارير الإخبارية الغربية.

تبدو هذه القرارات التحريرية معقولة فقط بسبب أن مناخاً سياسياً مختلقاً هو الذي يهيمن في الغرب. فإسرائيل والإسرائيليون، بل وحتى الجنود الإسرائيليون الذين ينفذون حكم الفصل العنصري، يعاملون كما لو كانوا أبرياء، بينما الفلسطينيون العاديون، بما في ذلك الرضع، يصورون على أنهم متواطئون في الهمجية الجنونية التي تتهم حماس بارتكابها.

إن الأساس الذي تقوم عليه التغطية الإعلامية الغربية يُسقط تماماً من الحسبان عقوداً من الاحتلال الإسرائيلي الوحشي والاستيطان اليهودي غير الشرعي في المناطق الفلسطينية، هذا بالإضافة إلى ستة عشر عاماً من الحصار غير الإنساني المفروض على قطاع غزة. ما يحدث في التغطية الإعلامية هو أن الأدوار مقلوبة تماماً، وكأنما ضحايا الاحتلال هو المحتلون، وكأنما الفريسة هي المفترس، وكأنما من يقع عليه الأذى هو المبادر به. 

هتافات كراهية؟

وتلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها فهم استمرار الضجة التي تثار حول هتاف، كان يعتبر أولى بالتغطية الإعلامية من انتهاكات إسرائيل الرعناء وتهديدها لسلامة الرضع الخدج.


قبيل طردها من منصبها كوزيرة للداخلية، طالبت سويلا برافرمان الحكومة بتجريم شعارات خطاب الكراهية مثل "من النهر إلى البحر، سوف تغدو فلسطين حرة". وكانت قبل ذلك قد طالبت بحظر العلم الفلسطيني في المظاهرات.

ما كانت تحمله الوزيرة السابقة من رأي لم يكن مجرد وجهة نظر مارقة، فقد ورد أن الحكومة هذا الشهر تفكر بجدية في حظر الشعارات التي تحتج على قصف غزة، وتصنيفها على أنها دعم للإرهاب.

رمى اللورد كارلايل، الذي أشرف بنفسه على صياغة قانون الإرهاب لعام 2006، بثقله وراء تلك الفكرة، وقال بأنه ينبغي محاكمة المتظاهرين الذين يرفعون شعار "من النهر إلى البحر".

من المتوقع أنه في ظل حكومة يرأسها زعيم حزب العمال كير ستارمر، سيكون هناك دعم من الحزبين الرئيسيين لقمع أي مؤشرات على التضامن مع الفلسطينيين. ولا أدل على ذلك من أن عضو البرلمان آندي ماكدونالد تم تجميد عضويته في الكتلة النيابية لحزب العمال بسبب مطالبته بالمساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وغالباً لأنه أضاف إلى تلك المطالبة عبارة "ما بين النهر والبحر". 


يبدو أن أي ذكر لهذه العبارة، بغض النظر عن السياق، يعتبر مكافئاً لدعم إبادة "إسرائيل" أو اليهود.

وحتى من يفترض فيه أنه أكبر داعم لحرية التعبير على الإطلاق، إيلون ماسك، مالك منصة إكس (تويتر سابقاً)، وقع في أحابيل نفس الأسطورة، حيث وصف عبارات مثل "من النهر إلى البحر" بالمرادفة، مضيفاً أنها "تعني بالضرورة الإبادة الجماعية". بل وهدد بتوقيف حسابات المستخدمين الذين يكررون الشعار.

هذا النمط من المنطق في غاية السخف، ناهيك عن أنه يوقع صاحبه في تناقض سافر.

نزع الإنسانية

والحقيقة هي أن العبارة لم تزل متبناة منذ عقود من قبل جميع سكان المنطقة، في الطرفين، ممن يتحدثون عن حل الدولة الواحدة – بغض النظر عن النية من وراء ذلك.


وهذا يأتي بنا إلى مفارقة أخرى من المفارقات الكثيرة التي تعج بها وسائل الإعلام.

هناك مقاومة قوية في وسائل الإعلام ضد وصف الأفعال التي تقوم بها تل أبيب بالإبادة الجماعية. هذا مع أن الميثاق الرسمي لحزب الليكود في دولة الاحتلال لم يلبث يشير، وعلى مدى عقود، إلى المساحة الواقعة "بين البحر ونهر الأردن".


وعلى النقيض من حال المتظاهرين دعماً لغزة، يتحدث ميثاق الليكود ضمنياً عن النية في ارتكاب إبادة جماعية، وخاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار التدمير الذي تقوم به إسرائيل حالياً. ويعلن ميثاق الليكود أنه "ما بين البحر والأردن، لن يكون هناك سوى سيادة واحدة".

وهذا هو جذر اللغة النازعة للإنسانية التي يستخدمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزراؤه. لقد أطلقوا على الفلسطينيين وصف "الحيوانات البشرية" ووصف "العمالقة"، الذين هم أعداء بني إسرائيل، والذين توجب تدميرهم، بما في ذلك النساء والأطفال.

في المقابل، عندما يهتف المتظاهرون "من النهر إلى البحر" فإنهم لا يرفضون الإسرائيليين أو اليهود وإنما طبيعة إسرائيل، القائمة على نظام الفصل العنصري. فهم يرون أن الحكومات الإسرائيلية أقامت دولة واحدة في كل الأراضي التي كانت يوماً فلسطين التاريخية. وهذه الدولة التي أقاموها تفصل عنصرياً بين الفئات المختلفة، وتمنح لكل فئة منها حقوقاً مختلفة.

مطلب الحرية لفلسطين، بدلاً من "إسرائيل"، لا يعني إلحاق ضرر بالإسرائيليين، بل يمنح رؤية تقوم على المساواة بين الشعبين في نفس الأرض، بما يتجاوز دولة الاحتلال التي ولدت كمشروع استعماري أوروبي، صمم أساساً من أجل إخراج الفلسطينيين من وطنهم.


يرى هذا الهتاف بأنه لا توجد إمكانية لإقامة السلام مع تل أبيب بسبب تجسيدها البنيوي للتفوق العرقي. ويدعو بدلاً من ذلك إلى عملية تفضي إلى التحرر من الاستعمار – تفكيك المستوطنات غير القانونية وإلغاء الحقوق القائمة على الفصل العنصري – تماماً كما حدث في نهاية حكم البيض في جنوب أفريقيا. ويرى هذا الهتاف بأن التحرر من الاستعمار لا ينسجم مع الأسس الأيديولوجية التي قامت عليها دولة الاحتلال.

تظاهرات غزة ليس مسيرات كراهية، بل هي مسيرات للمطالبة بإنهاء عقود من الاستعمار الإسرائيلي، وصلت إلى حد نزع الإنسانية عن الفلسطينيين وارتكاب إبادة جماعية في غزة.

حملة تلطيخ السمعة

لربما كان من الأفضل الظن بأن الجهود التي تبذل من أجل تجريم التضامن مع الفلسطينيين بينما يتعرضون للتطهير العرقي وللإبادة الجماعية إنما يصدر عن حالة من الارتباك.


إلا أن الأدلة تشير إلى غير ذلك. ففي تغريدته، اعتبر ماسك، ليس فقط الهتاف، بل أي جهد يبذل في سبيل التحرر من الاستعمار – في أبسط معانيه، تفكيك المستوطنات غير المشروعة التي أقيمت في الأراضي الفلسطينية المحتلة – مرادفة للتعبير عن الإبادة الجماعية.

في هذا التقييم الصفري بشكل صارخ، والذي من الواضح أن وسائل الإعلام مثل البي بي سي، وكذلك الحكومة البريطانية وحزب العمال، يشتركون معه فيه فإن الكرامة والحرية للفلسطينيين ينظر إليهما باعتبارهما غير منسجمين مع بقاء الإسرائيليين في قيد الحياة.

وهذا أيضاً جزء من نمط معين. فحتى قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، شنت الطبقة السياسية والإعلامية في بريطانيا حملة ضد التضامن مع الفلسطينيين، معتبرة أن ذلك التضامن مكافئ لمعاداة السامية.


حركة المقاطعة السلمية للاحتلال – والتي تهدف إلى إنهاء التفوق اليهودي الذي تجسده طبيعة الليكود، وهو سابق على الأحداث التي نراها اليوم في غزة بدون اللجوء إلى الصواريخ والبنادق – كانت تعتبر معاداة للسامية.

وكذلك كان حال الإشارة إلى أن "إسرائيل" دولة فصل عنصري (أبارتايد) تحكم الفلسطينيين، رغم أن ذلك هو ما خلصت إليه منظمات حقوق الإنسان الرائدة في العالم.

وصلت تلك الحملة إلى ذروتها بتلطيخ سمعة زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربين الذي اتهم بمعاداة السامية، ومعه الآلاف من النشطاء في حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني داخل بريطانيا.

بشكل أوضح من أي وقت مضى، حق لهذا التاريخ القريب أن يزعجنا أيما إزعاج.


فهو له قرائن في أحداث غزة نفسها، حيث ظل الفلسطينيون هناك، ولسنين، يحاولون بوسائل بعيدة عن العنف الاحتجاج ضد حبسهم في قفص كبير. إذ تجمعوا عند السياج الذي يرمز إلى الحصار المفروض على قطاعهم، فما كان من جيش الاحتلال الإسرائيلي إلا أن سلط عليهم قناصته. ولقد وصمت احتجاجاتهم بالإرهاب.

ثم طيروا فوق نفس السياج بالونات حارقة أشعلت النيرات بالحقول المجاورة التي تقع فوق الأراضي التي شرد منها الفلسطينيون قبل عقود من أجل إقامة ما نطلق عليه اليوم "إسرائيل". هذا التوسل من أجل أن ينظر إليهم، هذا الإجراء المزعج الهادف إلى جلب الانتباه، تمت إدانته أيضاً بوصفه إرهاباً.

وطوال ذلك الوقت كان سكان غزة يتفرجون على السلطة الفلسطينية وهي تفشل فشلاً ذريعاً في جهودها ضمن إطار الدبلوماسية الدولية. ناهيك عن أن المساعي التي بذلت من أجل جلب تل أبيب إلى المحكمة الجنائية الدولية على ما ارتكبته من جرائم حرب كانت تقابل بالتنديد، على اعتبار أنها تعرض دولة الاحتلال إلى تهديد وجودي.

إثارة الانقسام

إن الذي أدى إلى الهروب من سجن غزة الكبير يوم السابع من أكتوبر هو سد السبل أمام كافة وسائل النضال السلمي من قبل الفلسطينيين من أجل تحرير أنفسهم من الاحتلال الذي لم يزل يزداد عمقاً ويزداد عنفاً. لربما كان ذلك الهروب من السجن دموياً، ولعله اشتمل على كثير من الممارسات الفظيعة، ولكن كل ما حدث في ذلك اليوم كان متوقعاً.


والمسؤول الأول عن ذلك هو "إسرائيل"، وتشاركها في المسؤولية طبقة السياسيين والإعلاميين في الغرب، حيث تجاهلت هذه الطبقة الفلسطينيين، بل وسعت إلى تلطيخ سمعتهم وسمعة جماعات حقوق الإنسان والنشطاء في حركة التضامن، كما يقومون الآن بتلطيخ سمعة هتاف بريء.

ثمة هدف هنا. وهو هدف في غاية القبح. يقصد من الحملة لنزع الشرعية عن أي تضامن مع الفلسطينيين – وتصنيفه على أنه كراهية – إثارة الاستقطاب والتصعيد. وفي أحلك صورها، تريد منا هذه الحملة أن نقف في صف أولئك الذين يقتلون الرضع.

بمساعدة المؤسسات الغربية، تعمدت تل أبيب الدفع بأنصار العدالة للفلسطينيين نحو جانب والدفع بمعظم الجمهور اليهودي نحو الجانب الآخر، بحيث يتخندق كل جانب في مواجهة الجانب الآخر. كل واحد من الطرفين يشعر بأنه الضحية. حيث ينتاب أحد الطرفين إحساس بالإحباط وبالشيطنة وبالغضب، بينما ينتاب الطرف الآخر إحساس بالخوف والقسوة. 


لم يكن ذلك من باب المصادفة. بل يعكس رغبة لدى المؤسسات الغربية في خلق نفس الانقسامات الداخلية ومشاعر الكراهية وحالة عدم الاستقرار، التي يزعمون أنهم يجتهدون في تجنبها. والغاية هي ضمان بقاء تل أبيب حليفاً لا يُمس، قادراً على عرض قوة الغرب ونفوذه في منطقة الشرق الأوسط ذات الثراء الواسع في النفط والغاز.

ليست المشكلة في الهتاف، وليست المشكلة في المسيرات التي تعارض حملة الرعب من قصف بالقنابل وقتل للرضع والخدج. وإنما تكمن المشكلة في قابليتنا لأن تنطلي علينا قائمة لانهائية من الكذب والخداع الذي يصدر عن المؤسسات الغربية حماية لمصالحها الضيفة على حساب إنسانيتنا المشتركة.