قضايا وآراء

تحولات المواقف الدولية من فلسطين

عملية "طوفان الأقصى" بغض النظر عن تداعياتها على قطاع غزة، قد شكلت تحولا على المستوى الدولي. (الأناضول)
لم تغب قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عن الأجندة الدولية منذ عام 1948، سواء في الأمم المتحدة أو في مواقف وسلوكيات الدول، غير أن عملية "طوفان الأقصى" وما عنته من قدرة شعب على المقاومة وتحدي الاحتلال من جهة، وحجم الإرهاب الإسرائيلي وما عناه من خروج عن المعايير الأخلاقية الإنسانية والقانونية من جهة أخرى، أعادتا طرح القضية الفلسطينية ومسألة الاحتلال على بساط البحث من جديد كما أظهرته مواقف الدول، بما فيها تلك التي وقفت في البداية إلى جانب إسرائيل.

أوروبا

في القارة الأوروبية، طالبت إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا ومالطا الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف واضح بشأن الأوضاع في قطاع غزة، يتضمن الدعوة ليس إلى وقف دائم لإطلاق النار فحسب، إعادة طرح مسألة حل الدولتين على جدول أعمال قمة مجلس الاتحاد الأوروبي التي انهت أعمالها أمس الجمعة، في وقت يعمل المجلس على فرض عقوبات ضد مستوطنين بالضفة الغربية.

أحد أهم التغيرات في أوروبا جاءت من قبل بريطانيا والدانمارك: الأولى اتجهت إلى منع المستوطنين المتطرفين دخول أراضيها، فيما أخذت الثانية مواقف قوية من استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة بعدما كان الموقف الدنماركي مؤيدا بقوة لإسرائيل.

وإذا ما استثنينا ألمانيا، وبعض الدول القليلة، تعمل أوروبا جاهدة على إنهاء الحرب، والعمل بعدها على بلورة خارطة طريق لحل الدولتين، ما يعني أن المسألة الفلسطينية وقضية الاحتلال أعيدت إلى رأس أولويات الدبلوماسية الأوروبية بعدما كانت غائبة لسنين عديدة.

ثمة غضب شعبي أوروبي يتوسع من مسألة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين باعتبارها آخر نظام أبارتهايد في العالم، وأن العالم الديمقراطي الليبرالي لم يعد يستسيغ استمرار هذا النظام.

أمريكا اللاتينية

الانقسام بين مواقف الدول الأوروبية، مع رجحان كفة الدول الضاغطة لوقف الحرب وإنهاء الاحتلال، هو نفسه في أمريكا اللاتينية، فبينما وقفت بعض الدول إلى جانب إسرائيل كالأرجنتين، تبنت دول أخرى مواقف حادة ضد إسرائيل، مثل فنزويلا وبوليفيا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل احتجاجا على جرائمها بحق المدنيين في غزة، وكولومبيا وتشيلي وهندوراس استدعوا سفراءهم لدى إسرائيل.

أدت عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي الواسع الحالي على قطاع غزة إلى نشوء كتلة يمكن اعتبارها تاريخية بمعنى من المعاني، بحيث إن مسار النضال الفلسطيني الطويل شهد تحولا مفصليا في رؤية العالم له، لا بمعنى تغير في المواقف الموجودة أصلا، ولكن بمعنى تزايد الضغط الدولي المندد بالاحتلال الإسرائيلي.
لا تتعلق مواقف هذه الدول بصعود اليسار إلى السلطة فيها فحسب، بل يتعلق الأمر أكثر بتقاليد سياسية شملت عموم أمريكا اللاتينية فيما يتعلق باحترام مبادئ القانون الدولي والدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، لا سيما أن القارة تعرضت لاضطهاد واستغلال وتدخلات عسكرية من قبل الولايات المتحدة، وقبل ذلك من استعمار أوروبي طويل.

ولذلك، دعمت معظم دول القارة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ورفض استمرار الاحتلال ونظامه العنصري.

الاستثناء الهندي

في آسيا، وباستثناء موقف ميانمار المعادي للإسلام والمسلمين، برز الموقف الهندي المؤيد بشدة لإسرائيل بما يشكل قطيعة تاريخية مع إرث هندي بدأ منذ المهاتما غاندي واستمر حتى راجييف غاندي ـ ابن أنديرا غاندي، ابنة جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء بعد الاستقلال ـ.

لا ينبع التحول الهندي الداعم لإسرائيل ـ الذي بدأ مع وصول نارندرا مودي إلى السلطة عام 2014 كممثل عن حزب "بهاراتيا جاناتا" ـ من مصالح سياسية واقتصادية، بل ناجم عن كراهية هندوسية للإسلام والمسلمين، أي أننا هنا أمام موقف أيديولوجي ـ هوياتي يعتبر المسلمين عدوا وجوديا للهند ولهويتها الهندوسية.

ولما كان هدف "بهاراتيا جاناتا" إضعاف الوجود الإسلامي في الهند، إما عبر تأجيج العنف المجتمعي الهندوسي والسيخي تجاههم أو عبر قوانين وإجراءات تضييقية، فإن أهداف الحزب واستراتيجيته تتلاقى مع أهداف الكيان الإسرائيلي في تصفية السكان الأصليين في فلسطين.

ومن هنا، فإن استراتيجية "بهاراتيا جاناتا" تتشابه مع الأيديولوجية الصهيونية في استرجاع الماضي البعيد بنقاوته الهوياتية وتخليصه من الشوائب التي أصابته عبر عمليات إقصائية للهويات الأخرى المُهددة.

خلاصة

أدت عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي الواسع الحالي على قطاع غزة إلى نشوء كتلة يمكن اعتبارها تاريخية بمعنى من المعاني، بحيث إن مسار النضال الفلسطيني الطويل شهد تحولا مفصليا في رؤية العالم له، لا بمعنى تغير في المواقف الموجودة أصلا، ولكن بمعنى تزايد الضغط الدولي المندد بالاحتلال الإسرائيلي.

وأمام هذا الوضع، فإن عملية "طوفان الأقصى" بغض النظر عن تداعياتها على قطاع غزة، قد شكلت تحولا على المستوى الدولي.

غير أن التاريخ يعلمنا أن الحقوق لا تعطى، بل تؤخذ، وبهذا المعنى، فإذا لم ينجح العرب في استغلال هذه المتغيرات وتشكيل جبهة موسعة تشمل كل دول العالم المؤيدة لفلسطين، فإن العدوان الحالي على غزة والواقع الاستراتيجي الذي تحاول إسرائيل فرضه، سيغير قواعد الصراع لمصلحة إسرائيل.