أفكَار

مُعضلة مثقّفي الحركة الإسلامية.. عن العلاقة بين الحرية وضوابط التنظيم

فئة من المثقفين من الأفضل أن يمارسوا أدوارهم التربوية التعليمية التوعوية خارج أي تنظيم.. في الصورة: الطيب بوعزة.. عبد الهادي المهادي.. المقرئ أبو زيد الإدريسي.
(1)

"ملفّ" مثقّفي الحركة الإسلامية المغربية، خاصة أولئك الذين نشأوا بين أحضانها منذ كانوا تلامذة، وكان يُنتظر "خَراجهم"، يحتاج إلى "مُدارسة" حقيقية؛ فالكثير منهم، مَن خرج إلى الإعلام ومَن يمنعه "الحياء" مِن ذلك، يجدون أنفسهم غير منسجمين مع تنظيماتهم، في أفكار وتقديرات؛ قلّ شأنها أو كبُر، بعضهم ذاهبٌ قُدُما وبقامة منتصبة ودون أن يرفّ له جفن نحو الرؤية العلمانية للأمور.

وآخرون أصبحوا يتماهون مع الخطاب الرسمي للدولة.

وآخرون "تَمَخْزَنوا" ـ كما نُعبّر في المغرب ـ أي أنّهم تحوّلوا إلى أصوات للسّلطوية وبشكل مكشوف. 
فأين الخلل؟

(2)

حينما أقرأ لمثقّف كان "إسلاميّا" في بداياته وشبابه قبل أن ينعطف و"يتحوّل" إلى "نقّاد" قاس على "مدرسته" يوم استأنس من نفسه القدرة على "القول" المختلف، يغزوني إحساس الأب الذي تنكّر له أحد أبنائه الذين كان ينتظر استواءه ليتباهى به وبالثّمار التي سيقطفها له، فإذا به يُفجع فيه، فتُرافقه غصّة تأبى مغادرته.

فئة من المثقفين من الأفضل أن يمارسوا أدوارهم التربوية التعليمية التوعوية خارج أي تنظيم؛ ولا أمَلّ، في هذا الصّدد، من ضرب المثال بالأستاذ المقرئ أبي زيد الإدريسي، فأنا أقدّر أنّه لو كان مُتحرّرا من الانتساب لتنظيم دعوي سياسي لكان عطاؤه أكثر مردودية... هل هذه دعوة لاستقالة المثقفين من تنظيماتهم؟!
(3)

الكثير من "مثقفي" الإخوان المسلمين ومفكّريهم وعلمائهم غادروا التنظيم، بعضهم استمرّ اسمه محسوبا عليهم وانقطع تنظيميا، وبعضهم حافظ على الودّ ودافع عن مواقفهم بشكل مجمل، وآخرون اختطّوا لأنفسهم اختيارات أبعدتهم عن كلّ ما سبق وأن تشرّبوه، وقلّة وجّهوا نيرانهم بشكل فجّ وقبيح لمن سبق فضلهم، وقد بان الغلّ في خطابهم. ونفس الأمر حصل ويحصل في المغرب؛ فمَن غادرهم و"شتمهم" ـ أقصد المثقفين منهم ـ  قلّة قليلة، نعرفهم ونعدّهم، ونعرف جيّدا خلفيات انسحابهم، وفي الغالب ـ حينما نُدقّق جيّدا ـ نحصل على أسباب تنظيمية محضة أو عوامل نفسية خالصة. والآحاد منهم من انعطف بسبب "مراجعات" فكرية.

تُعجبني تجربة الأستاذ الطّيب بوعزّة، وإن كنتُ لا أتبنّاها، ولا أدعو لها؛ رجل من معدن نقيّ صاف، عالي الأدب. وربما يعود السّبب في إعجابي بتجربته كونه انشغل بالفكر المحض والفلسفة، وابتعد عن تلك التي تجرّ المشاكل؛ أقصد السياسة.

(4)

تقديري للمسألة، والذي لن يفهمه الخِلْو من أيّ تجربة انتساب تنظيمي، أنّ "المثقّف الحركي" لا يمكنه ـ أوّلا ـ أن يدّعيَ أنه "حرّ" في فكره، يقول ما يشاء، وإن تعارض قوله مع كلّيات تنظيمية. قد يحصل عنده اختلاف حول بعض التفاصيل، أو في أسلوب تحليل بعض الأحداث والأخبار، أمّا في المنهج والرؤية الكلية والأسس فلا، فإن وقع ذلك، فالأمر يعبّر عن خلل؛ خلل حقيقي، ويحتاج إلى موقف وتوضيح، وأنا شخصيّا أعرف "تجربة طريّة" معبّرة بشكل جليّ عن هذا الذي اعتبرناه تناقضا، صاحبُها هو الأستاذ عبد الرحمن القاطي، أستاذ بكلية أصول الدّين بتطوان، وهو صديق قديم، مثقّف، قاده تفكيره وتأملاته أن ينتج أفكارا متعارضة مع تصور مدرسته التنظيمية، ونشرها حديثا في كتاب سمّاه "البرهان في حاكمية القرآن: نسق ثالث في أصول الفقه؛ مراجعة في مسلمات أصولية من داخل النّسق القائم" وأعتقد أنّ استمراره في الانتساب إليها "تنظيميا وفكريا" يحتاج إلى جُهد فكري جبّار، منه ومن مدرسته، لإقناع النّاس بذلك، فإن حصل فسأعدّه "فتحا" عظيما.

تقديري ـ ثانيا ـ أنّ "المثقف الحركي"، إن اختار مغادر سفينة مدرسته؛ تنظيميا وفكريا، من الأفضل أن يتجنّب الاصطدام معها في العلن، ويترك آخرين يفعلون ذلك عوضا عنه، فإن كان ولا بدّ، فـ"يجب" أن يفعل ذلك بأدب عال.

وفي المقابل، على "أعضاء التنظيم" أن يسكتوا عنه، ولا يستفزّونه بتعليقات جارحة، أو متّهِمة، وأن يناقشوه بحكمة وتعقّل، وأن يعملوا جهدهم على الحفاظ على ودّهم القديم، وأن يعتبروه من ضمن "الدّائرة"، وإن بعُدَت وتوسّعت، فأن يكون متعاطفا ومدافعا، خير من أن يغدوا من جملة الخصوم أو الأعداء.

فئة من المثقفين من الأفضل أن يمارسوا أدوارهم التربوية التعليمية التوعوية خارج أي تنظيم؛ ولا أمَلّ، في هذا الصّدد، من ضرب المثال بالأستاذ المقرئ أبي زيد الإدريسي، فأنا أقدّر أنّه لو كان مُتحرّرا من الانتساب لتنظيم دعوي سياسي لكان عطاؤه أكثر مردودية... هل هذه دعوة لاستقالة المثقفين من تنظيماتهم؟!

(5)

قرأتُ لأحد الأصدقاء يقول: "ألا ترى أن مجموعة من الطاقات الحركية والثقافية يتم تهميشها بدعوى عدم فائدة الإسلام الحركي والفكري والتركيز فقط على التربية أولا وأخيرا".

مؤكّد أنه يقصد هنا جماعة العدل والإحسان، فهذا الأمر من أشهر ما يُتداول عنها، بغض النظر هل هو صحيح أم خاطئ بالشّكل الذي طرحه، وهو صدى لمقولة للأستاذ عبد السلام ياسين ضمن كتابه "المنهاج النبوي"، إذ يقول: "إسلام الزَّهادة والهروب من المجتمع، والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق".

كثيرة هي النماذج في العمل الإسلامي الحركي التي "اصطدم" فيها المثقف برجل التنظيم، الذي قد يكون مثقفا بدوره وقد لا يكون. وكلما حصلت هذه "المقابلة" ـ في جولات ـ كانت الغلبة فيها للثاني، فيضطر الأوّل إمّا إلى التراجع وإعادة النظر في وسائل اشتغاله داخل تنظيمه وسبل تنزيل مقترحاته، أو يغادر؛ بهدوء أو بصخب.
حينما تشتهر جماعة بشيء فلأنّها تمنحها الأهمّية والأولوية على ما سواها، والجماعة أولويّتها الدّاخلية بدون أي شك هي التربية؛ التربية بمعناها الرّوحي الإحساني الصوفي؛ "الصوفي" لأتفاهم مع قارئي فقط.

الأستاذ ياسين ذو خلفية "صوفية"، وتهمّمه الكبير نابع من ذلك، ولكن لا أحد يستطيع أبدا أن يدّعي بأنه فرّط في أي جانب آخر من الجوانب التي أشار إليها في تنبيهه السابق. فإذا حصل وأن وجدنا تلامذته يأتون، قولا أو فعلا، بغير ما وجّههم فاللّوم يرجع عليهم.

الخطورة أن بعض النّاس حين يكتشفون نوع الخطاب الذي يروج وسط جماعة ما يعملون على "تقمّصه"، وإن كانوا أبعد النّاس عنه، وفي حالة العدل والإحسان قد نجد من يتقن "ثقافة الإحسان" دون أن يكون من أهله.

إلى عهد قريب كان وصفُ أحد داخل الجماعة بـ"الإسلام الفكري" أو "الإسلام الحركي" شائعا، اليوم ـ حسب علمي ـ خفّت حدّة هذا الأمر، ووعى الجميع بالأهمية التي يلعبها أصحاب الفكر والسياسة، ولكن دون أن يفرّطوا في "التربية"؛ فهي المبتدأ والخبر، وهي التّمييز، وهي المفعول المطلق.

لا أظنّ أن المسؤولين في تنظيم يمكن أن يهمّشوا "طاقة" لأن المعني بالأمر يُغلّب جانب الفكر والسياسة والحركة على التربية، وما أنا متيقّنٌ منه أن "الجماعة" تستأمن على أعضائها الرّجلَ، ذا القلب الواسع الرحيم الذي له قدرات الجمع والتّأليف، أكثر من الرّجل المفكّر والسياسي والحركي. وهذا ـ لعمري ـ أحد أهم عناصر قوّتها.

(6)

كثيرة هي النماذج في العمل الإسلامي الحركي التي "اصطدم" فيها المثقف برجل التنظيم، الذي قد يكون مثقفا بدوره وقد لا يكون. وكلما حصلت هذه "المقابلة" ـ في جولات ـ كانت الغلبة فيها للثاني، فيضطر الأوّل إمّا إلى التراجع وإعادة النظر في وسائل اشتغاله داخل تنظيمه وسبل تنزيل مقترحاته، أو يغادر؛ بهدوء أو بصخب.

وسبب ذلك يعود، بالدّرجة الأولى، إلى أنّ رجل التنظيم يكون الأقرب إلى الأعضاء، وهو الأعرف بذهنياتهم، ونوع تربيتهم، ومشاغلهم، ومشاكلهم.

اهتمامات رجل التنظيم مختلفة عن تلك التي ينشغل بها المثقف، فأولوياته مرتبطة بما يسمى "البناء التنظيمي"، والتّوسع، والاستقطاب، والحفاظ على متانة الصّفّ، والإنجاز، والتقارير. بينما المثقف أولوياته متعلقة بالتّوعية والتثقيف والتّفهيم. وهذه تغدو ـ في الغالب ـ في ذيل جدول الأعمال إن جمع بينهما لقاء.

أقف هنا على مفارقة غريبة: فبعض رجالات التنظيم كانوا ـ زمن مسؤولياتهم ـ صارمين مع أهل الثقافة والفكر، "مُهمّشين" لهم ـ على حدّ تعبير أحد أصدقائي ـ متّهمين إيّاهم بـ"الإسلام الفكري"، وعندما غادروا مسؤولياتهم التنظيمية اشتغلت ماكينتهم النّقدية تجاه تنظيماتهم ورجالاتها، وأصبحوا فجأة من أهل النظر، وقفزوا إلى جهة المثقفين، يشتكون بدورهم "الإقصاء والتّهميش"!