كتاب عربي 21

فليبقَ السكارى خارج المسجد

1300x600
من الأماكن التي حرصت على زيارتها خلال رحلتي الأولى إلى اليابان في نهاية التسعينيات كان المركز الإسلامي في طوكيو، فقد قرأت بعض ما كتبه الدكتور السامرائي مدير المركز حينها عن الإسلام في اليابان وتاريخ العلاقة بينهما، فحرصت على لقائه والتعرف عليه، فقد كان الدكتور السامرائي موسوعة في هذه العلاقة، ونشر العديد من الأوراق والكتب التي تتحدث عنها، وأذكر أنني استخدمت الكثير مما كتب في ورقة قدمتها لمؤتمر عقد في البحرين بعدها عن العلاقة بين الإسلام واليابان.

لفت نظري خلال وجودي في المركز شيخ تركي كان في أواخر الستينيات من عمره، له منظر وسمت لم أره من قبل، فقد كان ذا بشرة بيضاء تميل إلى الاحمرار، ويضع على رأسه عمامة بيضاء ويلبس ثوبا شديد البياض يضع فوقه عباءة بيضاء مطرزة بخيوط مذهبة، وله لحية بيضاء لا تتخللها شعرة سوداء، وينتعل حذاء أبيض اللون على جراب أبيض، لقد كان بمنظره المميز ذلك يلفت نظر كل من يراه وخصوصا في عاصمة مزدحمة مثل اليابان التي ليس بها تنوع عرقي.

حاولت أن أجد فرصة لأجلس مع الشيخ لأتعرف عليه ولمعرفة السبب الذي يجعله يلبس هذا اللبس اللافت للنظر، وعندما بدأ في الحديث وجدت نفسي مندهشا لما يقول، فلم يكن الشيخ يفعل شيئا دون سبب، فنظرته التي مازلت أذكرها توحي بذكاء شديد، وتصرف مقصود.

بدأ حديثه بوضع يده على ملابسه ليشرح لي أنه يلبس هذا اللباس متعمدا حتى يلفت أنظار الناس إليه، فاليابانيون مؤدبون جدا، يحاولون عدم النظر إلى الآخرين حتى وإن كانوا يلبسون لباسا غريبا مثل لباسه، ولهذا السبب فهو يذهب إلى محطات قطارات الأنفاق المزدحمة ويتحدث معهم محاولا كسر حاجز الخجل هذا ليدعوهم إلى الإسلام، وذكر لي عدة حوادث طريفة حصلت معه كان من أجملها قصة رواها ومازلت أذكرها حتى هذه اللحظة.

يقول الشيخ: ذهبت لزيارة الأتراك في ألمانيا، فهذه الدولة بها جالية كبيرة منهم، وحال وصولي إلى هناك أخذني مضيفي إلى المسجد الذي كان به مجموعة من رواده، نظرت إلى وجوههم مستغربا، وقلت لهم إنني لم أسافر كل هذه المسافة من اليابان إلى ألمانيا لأحدث أناسا يرتادون المسجد، ولكن دلوني على من لا يرتاده، أين يجلس الأتراك الذين لا يحضرون لمسجدكم هذا؟ فقيل لي إنهم يجتمعون في بار (حانة) لا تبعد كثيرا عن المسجد، فقلت لهم: خذوني إلى هناك.

تردد الجميع وحاولوا ثنيي عن رأيي ولكنني كنت قد اتخذت قراري، فذهبت بهذا الزي الذي تراه إلى الحانة. رآني الأتراك داخلا عليهم بهذا الزي فرحبوا بي أشد ترحيب، وبدأت أحدثهم عن تركيا وعظمتها وعن الفتوحات العثمانية، فتأثروا أيما تأثر بحديثي ثم انتقلت إلى المرحلة الثانية، فقلت لهم أنتم أحفاد أولئك العظام الذين فتحوا العالم ووصلوا إلى أسوار فيينا، فبدأ بعضهم يبكي تأثرا، فالخمر كانت قد فعلت فعلها قبل أن أحدثهم.

شاهدت تأثرهم فوجدتها فرصة لجمع التبرعات للمسجد منهم، ثم قال ضاحكا: كم يكون السكران كريما، ثم واصلت الحديث معهم حتى بدأ بعضهم بالبكاء بشكل واضح، فطلبت منهم أن نذهب إلى المسجد، فهذا المكان ليس مكانا للحديث بعد أن تنزل دموع الندم.

أكمل الشيخ حديثه بالقول: وصلنا إلى المسجد وكان بعض من معي يستند على الآخر من تأثير الخمر وبعضهم كان مسيطرا على نفسه، كانت مجموعة من السكارى الذين وجدت صعوبة في السيطرة عليهم، وعلى باب المسجد قال بعضهم: هل يصح أن ندخل المسجد ونحن في هذه الحالة من السكر، فقلت: فليبق السكارى في الخارج حتى يصحوا.

كنت أنتظر أن ينهي الشيخ قصته هنا، ولكنه أكمل قائلا:

مرت من السنوات الكثير، وفي أحد الأيام كنت في مكة جالسا قريبا من الكعبة، فجاءني رجل تركي لابس عمامة وسلم علي سلاما قويا وكأنه يعرفني، وسألني إن كنت قد عرفته، فرددت عليه معتذرا بسني وضعف ذاكرتي مزينا نفيي بقولي: وكيف لشخص مثلي أن يعرف عالما كبيرا مثلك؟!

ابتسم الرجل ابتسامة كبيرة ورد عليَّ قائلا: لقد كنت مع السكارى خارج المسجد عندما زرتنا في ألمانيا.