ملفات وتقارير

رابوبورت: حرب غزة أعادت رسم خارطة الصراع

رابوبورت: لم تواجه دعوات احتلال القطاع رفضا كالسابق - أرشيفية
قال الكاتب الإسرائيلي الحائز على جائزة نابولي للصحافة الدولية ميرون رابوبورت إن حرب غزة أعادت رسم خارطة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وأن غزة حاضرة دائما في هواجس إسرائيل رغم خروجها منها في العام 2005.

وقال رابوبورت الذي عمل سابقا رئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتس في مقاله له في موقع "ميدل ايست آي" البريطاني: "خرج آخر جندي إسرائيلي من قطاع غزة في 11 أيلول/ سبتمبر 2005 بعد 38 سنة من الإحتلال والحكم العسكري والمدني ولم يكن أحد يفكر بشكل جاد بأن الإنسحاب هذا يمكن أن يتم عكسه أو أن إسرائيل قد تفكر يوما ما العودة للسيطرة المباشرة على هذا الشريط من الأرض المكتظ بالسكان. وبالنسبة لمعظم الإسرائيليين فإن غزة كانت تعتبر دائما ما بين مصدر إزعاج أو كابوسا. وكان رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين قال مباشرة بعد اتفاقية أوسلو "بالنسبة لي فيمكن لغزة أن تغرق في البحر" عاكسا بذلك حلم اسرائيل البعيد للتخلص من غزة ومخيمات اللاجئين فيها والتي تذكر بحرب 1948، تلك الحرب التي لم تنته فعلا".  

وأضاف: "وفي العقد الذي تلا الإنسحاب الأحادي الجانب لم تستطع إسرائيل أن تنسى غزة. فعملية الرصاص المصبوب عام 2008 وعملية عمود السحاب عام 2012 لم تشكلا سوى محطتين في مواجهة عنيفة مستمرة: حيث أطلق 15000 صاروخ وقذيفة هاون من غزة على إسرائيل خلال تلك الفترة وقامت إسرائيل بآلاف الغارات الجوية على غزة وبضعة عشرات من عمليات الإغتيال وبعض الإجتياحات من البر والبحر لغزة. حادثة سفينة مرمرة الزقاء في أيار/ مايو 2009 كانت جزءا من إحكام الحصار. ومع أن غزة محبوسة خلف أسيجة ولا يوجد فيها مستوطنون إلا أنها كانت دائما حاضرة في هواجس إسرائيل". 

وأشار رابوبورت إلى أن اللافت في هذه المرة هو أن خيار إعادة احتلال غزة الذي كان يعني انتحارا سياسيا لم يتم رفضه كالسابق بل إن بعض السياسيين والخبراء العسكريين وبعض فئات الشعب يؤيدون الخيار.

وقال: "قبل أسبوعين لم يكن موضوع إعادة احتلال قطاع غزة وإعادة الحكم الإسرائيلي إليها لم يكن على طاولة أصحاب القرار في إسرائيل. ودعم مثل هكذا قرار كان يعني الإنتحار السياسي. ولكن جاءت عملية الجرف الصامد لتغير كل هذا. ولأول مرة منذ عام 2005 لا يتم رفض هذا الخيار فورا، فالسياسيون يدعمون هذا الخيار بشكل مفتوح ويؤيده الخبراء العسكريون الكبار وحتى الشعب يبدو ميالا له، فبحسب استفتاء نشرت نتائجه في صحيفة "هايوم" فإن 77% يمانعون وقف إطلاق النار و65% يعتقدون بأن الهدف من عملية "الجرف الصامد" يجب أن تكون القضاء على حكم حماس في غزة وهذا لا يمكن فعله إلا بالسيطرة التامة على غزة".

وتساءل الكاتب: "كيف تم هذا التحول في التفكير؟ لعب استمرار إطلاق الصواريخ على إسرائيل بعد 16 يوما من الحرب دورا. صحيح أن مدنيين اثنين قتلا فقط وذلك بسبب نجاح القبة الحديدية وليس هناك ذعر بين المدنيين الإسرائيلين ولكن الحياة  معطلة بخاصة في الجزء الجنوبي من إسرائيل فالغياب عن العمل كان بنسبة 6% في بداية تموز/ يوليو وأصبحت بعد ذلك بأسبوعين 33%. وحقيقة أن الجيش يقول إنه لا يستطيع أيقاف هذه الصواريخ بالتأكيد لا يؤدي إلى طمأنة الشارع الإسرائيلي. وفي نفس الاستفتاء المذكور سابقا قال 68% من المشاركين إن هناك فرصة ضئيلة أو معدومة حسب تقديره في أن يقف إطلاق الصواريخ بعد انتهاء العملية". 

وقال إن ما لعب دورا أكبر في هذا التحول هي الأنفاق التي حفرت تحت الحدود بين غزة وإسرائيل والتي يخرج منها عشرات المقاتلين من حماس كل يوم؛ فلم تسمح هذه الأنفاق لحماس بأن تقاتل الجندي الإسرائيلي على أرضه فقط ولكنها شكلت تهديدا نفسيا للكثير من سكان الكيبوتسات والمدن الإسرائية. فحيقيقة أن العدو ممكن أن يخرج في أي لحظة من تحت الأرض تشكل كابوسا بحسب رابوبورت.

وتابع: "هذه المشاعر توضح وجود أغلبية مؤيدة للعملية البرية والتي تهدف رسميا إلى كشف وتدمير الأنفاق، والتكلفة الباهظة التي وصلت إلى 27 جنديا هذا الصباح تخدم في أن تقوي عزيمة الجيش والشعب لإثبات أنهم لم يموتوا عبثا. حتى وصل الأمربنفتال بنت الذي يقود المتطرفين في الحكومة أن يهدد بإسقاط الحكومة إن وافقت على وقف لإطلاق النار قبل تدمير كل الأنفاق في غزة".

أشار إلى أن السبب أعمق من ذلك، فبحسب الدكتور غابي سيبوني، العقيد المتقاعد ومدير برنامج الشؤون العسكرية و الإستراتيجية  في كلية دراسات الأمن القومي: "نتيجة كل جولة أن حماس تصبح أقوى، إنها بالتأكيد أقوى مما كانت عليه في عملية الرصاص المصبوب. وضعنا سياجا فدخلوا من تحته. إنها مشكلة لا يمكننا التعايش معها ولا أن نقبلها.. فعلينا أن ندخل وننظف غزة". وسيبوني أحد مؤلفي "عقيدة الضاحية" التي تقوم على مبدأ الردع (بإلحاق أفدح الخسائر بالبنى المدنية والأرواح). 
ولفت الكاتب إلى أن يوفال ديسكن، المدير السابق للشين بيت والذي انتقد حكومة نتنياهو من فترة قريبة لترويجها للوهم بأن الوضع الراهن يمكن أن يستمر دون التوصل إلى حل، عبر عن رأي مشابه في صحيفة يديعوت أحرونوت حيث قال إن بإمكان إسرائيل توسيع عملياتها إلى المناطق الآهلة وايقاف إطلاق الصواريخ من غزة تماما. ستحارب حماس بشراسة وقد تكلف إسرائيل "ثمنا باهظا" ولكن قوتها على مقاومة مواجهة مباشرة مع "جيش الدفاع الإسرائيلي"  أقل من المتوقع وتوصل إلى الإستنتاج : "بدون عملية كهذه سيتم خلق وضع أشكالي يعني أستمرار سفك الدماء دون إمكانية الربح. 

وقال: "مع أنه ليس هناك من شك أن بإمكان إسرائيل إحتلال غزة إن هي أرادت ذلك لأنه وعلى الأقل الآن يبدو أن الشعب الإسرائيلي مستعد أن يدفع الثمن في الأرواح والخسائر الإقتصادية. وللأسف فإنها جاهزة لإلحاق أبلغ الأذى على حياة الفلسطينيين سواء كانوا مسلحين أو مدنيين. وبعكس المذبحة في صبرا وشاتيلا عام 1982 لم يكن للأعداد الكبيرة من جثث الضحايا في الشجاعية من أثر على الرأي العام الإسرائيلي. ولحد يبدو أن الرأي العام العالمي وساعده موقف مصر المتشدد من حماس ليس ضد إسرائيل بشكل معلن إن لم يكن مؤيدا في بعض الحالات، هذا طبعا قد يتغير ولكن من الواضح أن إسرائيل ترى أن لديها  "نافذة من الفرص" لتفعل ما لم تحلم بفعله من قبل".  
 
كما يقول سيبوني، بحسب الكاتب، إن "التطهير" قد يحتاج لعدة أشهر وربما سنة أو أكثر، فقد مرت سنتان ونصف على عملية الدرع الواقي التي احتلت فيها إسرائيل المدن في الضفة الغربية عام 2002 حتى انتهت الإنتفاضة الثانية، وإن سمح المجتمع الدولي والعالم العربي لإسرائيل تطبيق هذا في غزة وإن بقيت الضفة هادئة نسبيا ولم يصل عدد الضحايا الإسرائيليين حدا يغير الشارع معه رأيه حول الحرب في غزة..فيبقى السؤال الجوهري:  كيف ستتعامل إسرائيل مع غزة في اليوم التالي؟.

ويرى سيبوني أن "إسرائيل لديها الخيار بأن تعيد الحكم العسكري إلى غزة والذي ألغي بعد انسحاب عام 2005 أو تسليم غزة لحكومة عباس بعد تحطيم امكانية حماس على الحكم أو القتال، وشروط نقل السلطة ليست واضحة، ولكن ديسكن يقدم نموذجا ينزع فيه سلاح غزة وكلما كان نزع السلاح أعمق تم رفع الحصار بشكل أكبر".

وختم رابوبورت مقالته قائلا: "لا نزال بعيدين جدا عن إعادة إحتلال إسرائيلي كامل لغزة، و ما هناك من شك أن مثل هذا التحرك سيؤدي إلى سفك شديد للدماء ولكن ما هو مثير هو  هذا التغير المفاجي في الرأي في الدولة الإسرائيلية بخصوص غزة واستعدادها إعادة احتلالها حتى ولو كلفها ذلك ثمنا باهظا في أرواح الإسرائيليين يمثل إدراكا بأن إسرائيل لا تستطيع أن تهرب دائما من غزة وأن غزة لن تغرق نفسها في البحر من ذاتها. فبعد سنوات من الرفض تدرك إسرائيل أنه لا يمكن فصل غزة عن الضفة وأنه لا حل للقضية الفلسطينية دون حل لمشاكل غزة، أو ليس هذا ما أراده الشعب الفلسطيني بما فيهم حماس طيلة هذا الوقت؟ ألم يكن هذا هو سبب عدم موافقتهم على المبادرة المصرية التي طرحت معادلة "تهدئة مقابل تهدئة؟" ولكن المؤكد هو أن حرب غزة تغير خريطة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني".