مقالات مختارة

هاجس إعمار القطاع وتدمير القضية

1300x600
كتب فهمي هويدي: حفاوتنا بانعقاد مؤتمر إعمار غزة. ينبغي ألا تصرفنا عن مضمون الكلام الذي قيل في المؤتمر. وفهم أنه المقابل الذي يتعين دفعه للإعمار المنشود. ذلك أن الإشارات التي عرضت لذلك المقابل لا توحي بالاطمئنان، وتفتح الباب للظن بأن رقبة المقاومة هي الثمن المطلوب لإتمام عملية الإعمار. صحيح أن أحدا لم يقلها صراحة، لكن الإشارات التي وردت في الخطب الرسمية التي ألقيت تستدعي ذلك الاحتمال.

إننا إذا دققنا في الخطب التي قيلت في المؤتمر سنلتمس العذر للذين تحركت لديهم مشاعر القلق وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه في إساءة الظن. بالعبارات والإشارات التي وردت فيها.

لقد تم التركيز في الكلمات التي قيلت على 3 محاور أساسية هي: التهدئة الدائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ــ التعويل على الحل السلمي الذي يقوم على استمرار المفاوضات بين الطرفين ــ بسط السيطرة الكاملة للسلطة الوطنية المتمركزة في رام الله على كل نواحي الحياة في قطاع غزة. وقبل أن أعرض ما عندي في النقاط الثلاث فإنني استأذن في التذكير بموقف الحكومة الإسرائيلية وتصريحات رئيس وزرائها قبل وبعد الاتفاق على وقف إطلاق النار في 26 أغسطس الماضي، عقب العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة. ذلك أن إسرائيل كانت قد أعلنت على لسان رئيس وزرائها رفضها للمصالحة بين حركة فتح وحماس، ومقاطعتها لحكومة الوفاق الوطني، وإصرارها على عدم السماح لأعضاء الحكومة لعبور «أراضيها» والتوجه من الضفة إلى القطاع. وأثناء العدوان أعلن نتنياهو أكثر من مرة أن بلاده لن توافق على وقف إطلاق النار وإعمار القطاع إلا إذا قبل الفلسطينيون بنزع سلاح المقاومة (الذي أزعج إسرائيل كثيرا أثناء القتال الذي استمر 51 يوما).

رغم أن إسرائيل كررت هذين الشرطين أكثر من مرة. فإننا فوجئنا بأن موقفها تغير في هدوء ودون إعلان. فقد سمحت بزيارة رئيس وزراء حكومة الوفاق لغزة، كما أنها لم تصر على مسألة نزع سلاح المقاومة في الاتفاق الذي تم توقيعه بين الطرفين.

وقتذاك قيل إن مسألة الاعتراف بحكومة الوفاق وإنهاء مقاطعتها تم بناء على نصيحة أمريكية، في إطار تفاهمات لم يعلن عنها. كما لم يفسر لنا أحد لماذا سكتت إسرائيل على مطلبها نزع سلاح المقاومة، لكننا وجدنا رائحة الإجابة عن ذلك التساؤل في الكلمات التي ألقيت في مؤتمر الإعمار الذي شهدته القاهرة في الأسبوع الماضي (انعقد في 12/10).

إذ رغم أن المؤتمر لم يكن ليعقد لولا التغيير المثير في موازين القوى الذي فرضته المقومة بصمودها وبسالتها وإبداعاتها، فإن الكلمات التي قيلت لم تشر إلى هذه الخلفية ولا إلى نضالات الشعب الفلسطيني التي أبقت على حيوية القضية رغم محاولات طمسها وتصفيتها. في الوقت ذاته جرى الحديث عن ضرورة التهدئة الدائمة (كأنما كل المشاكل العالقة تم حلها)، والالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، كما جرى إحياء مبادرة السلام العربية التي أطلقت قبل 12 عاما ثم ماتت ودفنت ولم يعد يأتي أحد لها على ذكر، إلا في سياق الحديث عن فشل المراهنة على مبادرات السلام مع إسرائيل.

 وكان مثيرا للانتباه والدهشة أن هذا الكلام أطلق في توقيت أدرك فيه الجميع أن مفاوضات الحل السلمي ظلت طول الوقت بابا للمراوغة والتسويف، وأجلا مجانيا يقدم لإسرائيل لكي تنجز مخططاتها للتهويد وتوسيع الاستيطان. ليس ذلك فحسب، وإنما قيل هذا الكلام في لحظة انتصار المقاومة والثقة المتزايدة في قدرتها على الصمود والتصدي ومواصلة النضال لتحصيل الحق المسلوب.

النقطة الثالثة التي تمثلت في بسط السيطرة الكاملة لسلطة رام الله على القطاع كانت غامضة على نحو فتح الباب للظن بأنها صيغة تستجيب للمطلب الإسرائيلي الداعي إلى نزع سلاح المقاومة، وكانت القرينة الدالة على ذلك ما فعلته السلطة المذكورة إبان سيطرتها على الضفة، حين قضت تماما على المقاومة ليس فقط من جانب حماس والجهاد، وإنما أيضا فيما خص كتائب الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح ذاتها. ليس ذلك فحسب، وإنما دخلت السلطة في التنسيق الأمني مع الإسرائيلي، الذي لم يكن سوى ملاحقة لعناصر المقاومة وإجهاض عملياتها.

إن الحديث الذي تردد حول قرار واحد وسلاح واحد وسيطرة للسلطة على الأنفاق ومنصات الصواريخ ومعامل تصنيع السلاح وصيانته مقبول في ظل دولة حقيقية لها استقلالها وحدودها ووضعها القانوني المعترف به. وهو ما لابد أن يختلف حين نكون بصدد دولة افتراضية يتحكم الأمن الإسرائيلي في مفاصلها، وبوسع أي ضابط مخابرات أن يحتجز رئيس السلطة أو وزراءه بعد أن يسحب منهم تصاريح الخروج والدخول.

إن التحدي الذي يواجه المقاومة الفلسطينية والسلطة الوطنية يتمثل الآن في كيفية التوصل إلى صيغة تفتح الباب لممارسة سلطة إدارة القطاع والإشراف على إعماره، في الوقت الذي يبقى على المقاومة كقوة دفاعية مستقلة تنسق مع السلطة لكنها لا تذوب فيها. ولا بأس من تعهدها بوقف عملياتها طالما بقى الإعمار مستمرا، على أن تتحلل من ذلك إذا ما تعرض القطاع للاجتياح أو أي عدوان إسرائيلي. وصياغة هذا الموقف متروكة لتفاهم الطرفين الفلسطيني الذي ينبغي أن ينطلق من رفض مقايضة الإعمار برقبة المقاومة، التي هي الأمل الوحيد الباقي للدفاع عن القضية ووقف تصفيتها.


(بوابة الشروق)