مقالات مختارة

"إيه يا باريس، ألم نقل لك؟"

1300x600
تأمل إسرائيل في أن تقنع هجمات باريس الأوروبيين بأنهم يشتركون معها في نفس المصير. إلا أنه قد يثبت لها العكس.
 
هناك مثل عبري قديم يقول: “إن المشكلة المشتركة نصف مشكلة". إلى جانب الصدمة الناجمة عن الهجومين الإرهابيين في باريس، فإن ذلك هو الشعور الذي ساد أوساط الناس في إسرائيل وأوساط الصحافة أيضاً، ولسان حال الجميع يقول لقد عانينا معشر الإسرائيليين أمداً طويلاً بسبب الإرهاب المسلم، وقد حان دور أوروبا لتعاني أيضاً، فعسى أن يفهمنا الأوروبيون الآن بشكل أفضل.
 
إيتان هابر، أحد أبرز كتاب الأعمدة في أكثر الصحف الإسرائيلية شعبية، يديعون أهرونوت، والذي كان يوماً مستشاراً مقرباً من رؤساء الوزراء إسحق رابين وإيهود باراك، رسم المعادلة بشكل فج جداً حين كتب يوم الخميس بعد الهجوم على مكاتب صحيفة تشارلي إيبدو في بارس قائلاً: “الآن، سيسأل كل واحد جميع الآخرين ماذا عسانا أن نفعل ولن يجد جواباً. رغم أن الجواب معروف للجميع: فإما نحن - معشر الأوروبيين والإسرائيليين وجميع محبي الحرية والديمقراطية- أو هم، المسلمون.”
 
تعكس كلمات هابر الالتباس العميق والمشاعر المختلطة في إسرائيل تجاه أوروبا. فمن ناحية، ينظر إلى أوروبا، على المستوى السياسي، في إسرائيل بعين الريبة بل وحتى الاشمئزاز، ومن الناحية الأخرى هناك توق في إسرائيل للانضمام إلى أوروبا وإلى عالمها المتحضر.
 
وعلى النقيض من النظرة إلى حليف إسرائيل الكبير والدائم، الولايات المتحدة الأمريكية، الانطباع السائد عن أوروبا أنها معادية لإسرائيل لأنها لا تفهم "محددات إسرائيل" في الحرب على الإرهاب مفضلة الإغراق في "خطاب حقوق الإنسان" العقيم على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس.
 
والعلاقات مع فرنسا بالذات أكثر تعقيداً من العلاقات مع غيرها. منذ حرب السويس في عام 1956 – تلك العملية المشتركة بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا التي استهدفت إسقاط النظام الناصري في مصر – وحتى حرب 1967 كانت فرنسا أقوى حلفاء إسرائيل في الغرب على الإطلاق، فهي التي كانت تزودها بالسلاح وهي التي بنت لها مرافق المفاعل النووي في ديمونا.ولكن فرنسا بعد ذلك، ورغبة منها في ردع إسرائيل عن شن الحرب في حزيران 1967، أعلنت حظراً على تسليح إسرائيل، الأمر الذي اعتبر في إسرائيل خيانة لا تغتفر.
 
كانت فرنسا أول بلد غربي يعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1975، واستضافت سفارة لفلسطين في باريس عندما كانت هذه المنظمة تعتبر في إسرائيل منظمة إرهابية تستهدف إسرائيل بالتدمير. منذ ذلك الوقت ما لبثت فرنسا أن عدلت من سياستها بشكل كبير تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن الانطباع السلبي مازال عالقاً في العقل الجمعي الإسرائيلي.
 
لما كانت فرنسا تؤوي أكبر جالية يهودية في أوروبا الغربية، يبلغ تعدادها 480 ألف نسمة، فإن الأمور تزداد صعوبة. صحيح أن كثيرين منهم قد اندمجوا بشكل كامل في المجتمع الفرنسي، إلا أن الذاكرة ما تزال حية بتجربة حكومة فيشي وتواطؤها مع النظام النازي في التنكيل باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
 
ولا عجب أن يعتبر كثير من الإسرائيليين فرنسا عدوة لهم وقد اختلطت في أذهانهم الأمور بشأن موقف فرنسا من إسرائيل.
 
تأزمت علاقات الجالية المسلمة بالجالية اليهودية في فرنسا وتصاعد التوتر بين الفريقين منذ بداية الانتفاضة الثانية عام 2000. وذلك أن الجالية اليهودية باتت بشكل متزايد ترتبط بإسرائيل، فكثيرون من أفرادها لهم أقارب يقيمون في إسرائيل، بينما أظهر المسلمون تعاطفاً وتضامناً مع إخوانهم الفلسطينيين. منذ ذلك الوقت تكثفت الهجمات على المؤسسات اليهودية، وكثيراً ما كانت تنسب هذه الهجمات لعناصر داخل الجالية المسلمة.
 
ولقد انعكست هذه التوترات على شكل تصاعد في وتيرة الهجرة اليهودية من فرنسا إلى إسرائيل.ففي عام 2014 اختار 6600 يهودي الانتقال إلى فرنسا مقارنة بما يقرب من 1900 يهودي فقط هاجروا قبل عامين في 2012. فحتى قبل الأحداث الدموية التي شهدتها باريس مؤخراً كانت الصحافة الإسرائيلية تعج بالقصص التي تتحدث عن مصير اليهود في فرنسا تحت ضغط ما يزعم أنه تهديد دائم من "التطرف الإسلامي".
 
لقد جرى في إسرائيل، و بسهولة بالغة، تبني الخطاب المناهض للمسلمين – والذي تصدح به منابر الأحزاب اليمينية في فرنسا وهولندا والسويد وفي غيرها من الدول الأوروبية، وذلك أن الإسلام ما فتئ يصور في إسرائيل على أنه مصدر الخطر الأكبر على وجود الدولة اليهودية، سواء من قبل إيران أو حزب الله أو حماس أو الدولة الإسلامية (داعش)، التي أضيفت إلى القائمة مؤخراً.
 
 ولقد ساعد ذلك كله الإسرائيليين في تشكيل صورة لفرنسا، ولأوروبا بشكل عام، كقارة تتعرض للهجوم من قبل المسلمين وتوشك على الوقوع في أيدي الجهاديين. كان يمكن لرواية الكاتب الفرنسي ميشيل أوليبيك وعنوانها "الخضوع" أن تكون مكتوبة بقلم روائي إسرائيلي، فهو تتصور مستقبلاً يتمكن فيه حزب إسلامي من الهيمنة على فرنسا.
 
ولكن في نفس الوقت، ورغم كل شكوكهم ومخاوفهم من أوروبا التي يزعمون أنها باتت معادية لهم ومناهضة للسامية بل و إسلامية بشكل متزايد، إلا أن الإسرائيليين يفضلون رؤية أنفسهم جزءاً من هذه القارة القديمة، من حيث أنهم هم الحملة الحقيقيون لرايات الحضارة الغربية في الشرق الأوسط. ولذلك حينما يساوي الكاتب الإسرائيلي هابر ما بين "الإسرائيليين والأوروبيين ومحبي الحرية والديمقراطية" فإنه يضرب على وتر حساس وعميق لدى الرأي العام الإسرائيلي.
 
لا يمكن إنكار أن قدراً من الرضى غير خفي على الإطلاق قد عم إسرائيل بعد هجمات باريس، وهو سلوك يمكن تلخيصه بعبارة "لقد قلنا لكم من قبل". فالهجوم على مكاتب صحيفة شارلي إيبدو – ربما أكثر من الهجوم على محل الأطعمة اليهودية، الذي اعتبر عملاً "تقليدياً" ضد السامية – اعتبر من قبل الكثير من الإسرائيليين تأكيداً على ما سبق للإسرائيليين أن علموه عن أوروبا ولكن فشل الأوروبيون في إدراكه بسبب عنادهم وتمسكهم بمفهوم المجتمع التعددي.
 
على المستوى السياسي يقود مثل هذا النمط من التفكير كثيراً من الزعماء الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن بإمكانهم استخدام هذه الأحداث لإبرام علاقة أخوة، اكتشفوها مؤخراً، بين إسرائيل وأوروبا في مواجهة الخطر المحدق بهم من قبل الإرهاب الجهادي. ولقد سارع وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان ووزير الدفاع موشيه يعالون إلى عرض تقديم المساعدة "لإلحاق الهزيمة بالإرهاب الإسلامي … الذي يهدد بالانتشار في كل أنحاء أوروبا والعالم الحر".
 
إلا أن إسرائيل تفكر بأكثر من مجرد النضال المشترك ضد الإرهاب. يقول السفير الإسرائيلي السابق في فرنسا دانيال شيك إنه يوجد تعاون وثيق حالياً بين الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية والفرنسية وأن هذا التعاون مرشح للازدياد بعد الهجمات الأخيرة. إلا أن ذلك لا يبدو كافياً، حيث تأمل إسرائيل في أن يحفز هذا "المصير المشترك" فرنسا، بل وأوروبا بشكل عام، إلى اتخاذ موقف أكثر تعاطفاً مع إسرائيل وتفهماً لنظرتها إزاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإلى وقف الاندفاع الأوروبي باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية على سبيل المثال.
 
والسفير السابق شيك على اطلاع جيد بمثل هذا النمط من التفكير، ويقدر أن المسؤولين الإسرائيليين حاولوا استخدام هذا الأسلوب من قبل، وكانت النتيجة – حسبما يقول شيك – غير إيجابية على الإطلاق من وجهة النظر الإسرائيلية، ولذلك فهو يحذر من أن الخطاب الذي يستهدف التأكيد على أن إسرائيل وأوروبا في نفس القارب وتواجهان نفس المصير يمكن أن تكون له ارتدادات ضارة جداً، وذلك أن الأوروبيين قد يلجأون بدلاً من تبني الموقف الإسرائيلي إلى النأي بأنفسهم عن إسرائيل للحيلولة دون تسرب تداعيات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أكثر فأكثر إلى عقر الدار الأوروبية.
 
يقول شيك: “يسود إسرائيل نزوع متنام حول رسم صورة نمطية للإسلام في أوروبا، كما لو أن أوروبا توشك أن تصبح مسلمة أو كما لو أن المسلمين على وشك أن يفتحوا أوروبا.” ويؤكد انطلاقاً من تجربته الشخصية أن المسؤولين الأوروبيين لا يسعدهم أبداً سماع نظرائهم الإسرائيليين يتحدثون بمثل هذا الخطاب الإسلامافوبي (المرعوب من الإسلام)، ويرفضون مثل هذا الكلام ويدفعونه مؤكدين على الطبيعة التعددية للمجتمعات الأوروبية. والخلاصة هي أن إسرائيل لا تعزف على الأوتار الصحيحة.
 
من المبكر جداً الحديث عن التأثير المحتمل للهجمات التي تعرضت لها مكاتب شارلي إيبدو وسوق الأطعمة اليهودية في باريس على السياسات الفرنسية والأوروبية. من المحتمل بالطبع أن تزداد الإسلاموفوبيا وأن تصبح حياة المسلمين في أوروبا أكثر صعوبة.
 
ولكن لا يوجد ما يضمن أن هذه الأحداث ستؤدي إلى خلق نوع من الأخوة الجديدة بين أوروبا وإسرائيل كما يتمنى كثيرون في إسرائيل. بل من الممكن أن يكون من تداعيات ذلك أن تصبح أوروبا أقل صبراً تجاه استمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يعتبر واحداً من الأسباب الرئيسية لانتقال حالة عدم الاستقرار من الشرق الأوسط الأوسط إلى شوارع أوروبا.



(ميدل إيست آي)