قضايا وآراء

البعد النفسي لكراهية الفلسطيني للاحتلال

1300x600
كتبت سابقا، وأكتب الآن، وكثيرا ما حدثت القصة، ولا أجد حرجا في إعادتها، فحينما كنت في نهاية المرحلة الثانوية توجهت إلى مقر الإدارة المدنية للحصول على تصريح سفر إلى الأردن، كما كانت قوانين الاحتلال الجائرة تفرض على من هم في سني، وعلى البوابة كان هناك جندي من الفلاشا لم أفهم ما يقول، فدخلت من جهة غير الجهة التي طلب مني الدخول منها، وكانت ردة فعله أن شتم عرض أمي، ويبدو أنه لا يفهم من العربية إلا السباب المقذع.. 

وفي عودة أخرى إلى المبنى ذاته، كان هناك مجموعة من الجنود يصرخون ويشتمون، وكان نصيبي السخرية من وزني الزائد مع ضحك خليع.. طبعا لم أملك أمام الشتيمة من الفلاشا والسخرية من (الجولاني) إلا الصمت، أو المداراة، وهذا صبر العاجز في حالة قهر الرجال!

لعل هذا الموقف يعدّ بسيطا جدا أمام يوميات حياة الفلسطيني تحت حراب الاحتلال، وبالتأكيد هناك مواقف أكثر قسوة حدثت مع غيري أو معي شخصيا، ولكن أوردت هذه القصة تحديدا لدلالاتها الرمزية، ولأن المبنى ذاته بعد حوالي سنتين صار مقرا للداخلية الفلسطينية، وصار الدخول لإتمام المعاملات واستخراج الوثائق المختلفة يتم بلا أي نوع من التفتيش، وفي الداخل موظفون تعرفهم شخصيا، وتشعر أنك في بيتك أو في ضيافة صديق أو قريب، ويمكنك إذا غضبت من إجراء روتيني، أو تعامل ترى أنه غير لائق، أن تحتج وتصرخ وتشتكي دون أن تخاف أن تطلق عليك النار أو أن تعتقل وتضرب وتهان، وستحل مشكلتك عاجلا أم آجلا، شتان ما بين الزمنين في المعاملة والمشاعر والحالة النفسية.

فأي فلسطيني لا يحب التخلص من الاحتلال ولو من أجل مثل هذا الموقف المذكور؟ ربما العميل الخائن الذي خسر الدنيا والآخرة، ولكنه بعمالته لم يعد فلسطينيا، بل حتى هذه الفئة المنبوذة، لم يعاملها الاحتلال إلا باحتقار شديد كما نعلم.

وبالطبع، كنت وما زلت معارضا ومنتقدا لاتفاق أوسلو، وفي الوقت ذاته كنت مرتاحا للتخلص جزئيا من سطوة الاحتلال على يوميات حياتي، وكنت أدرك البعد النفسي الخاص بمن أيدوا الاتفاق واحتفلوا به من عامة الناس الذين لم يقرؤوا سطرا واحدا منه، ولم يحضروا أي جلسة حوارية لمناقشته، وكنت أتذكر وأذكر قصتي مع جندي الفلاشا... كان الناس وما زالوا يريدون التخلص من الاحتلال وتفصيلات قهره وتحكمه بمسار حياتهم. 

لقد سئم الناس الحواجز العسكرية التي يعاملهم فيها الجنود حسب مزاجهم وحسب الظرف؛ فأحيانا يمزحون معهم ويبتسمون، وأحايين أخرى يعمدون إلى إهانتهم، وقد يطلبون منهم رشوة كالسجائر أو النقود فقط؛ كي يسمحوا لهم بالعبور والسير في طرقات لعل أديم ترابها مجبول بأجساد أجدادهم.

الناس ببساطة ملوا من الاحتلال، ويريدون التخلص منه، ويريدون أن يسافروا بحرية دون الخضوع للشروط والمعايير الأمنية النهمة التي يفرضها ضابط يحتسي مشروبا ساخنا أو باردا وهو خلف شاشة جهاز الكمبيوتر الذي يتعامل معهم كأرقام، ويفتش في تفصيلات التفصيلات الصغيرة لحياتهم كي يسمح لهم بأبسط حق ينعم به البيض والسود والحمر والصفر عبر هذا العالم الواسع.

لا شك أن أوسلو خلصنا جزئيا من الاحتلال، ومن دوريات حرس الحدود السمجين الذين كانوا يتحرشون بالمارة، ويقتحمون المنازل والمدارس وينكلون بنا، وكانت المناطق المصنفة (أ) تحظى بأمان نسبي، ولعل حماسة وفورة من يعيش خارج فلسطين بمعارضة قاسية في مفردات التعبير عن الرفض، لربما كانت أقل في حدتها، لو عاش تفصيلات حياتنا ويومياتها الصغيرة تحت الاحتلال.

لكن الاحتلال بقي يتحكم بحياتنا ومصيرنا، وازداد النهم الاستيطاني، وتكاثرت المشاريع التهويدية في القدس، وكأنها سرطان خبيث ينهش جسدا منهكا، وأدرك الناس بوعيهم الفطري الجمعي أن جندي (الفلاشا/الروسي/المروكي/...إلخ) ليس بعيدا عن بيوتهم، ويعترضهم في ذهابهم وإيابهم، وأن قيادته تتحكم بمائهم تحت أقدامهم وسمائهم فوق رؤوسهم، ولغته مفروضة على بطاقاتهم الشخصية في جيوبهم، وأن قلب جسدهم المعنوي المقدس يدنّس ويهوّد بكل صلافة ووقاحة، وأن العالم صار يعتبر أن قضية فلسطين صارت تاريخا!

وكان للأمر بعدا نفسيا سلبيا على شعب يخضع فعليا لمزاج الاحتلال وهوسه الأمني، فيما هناك رواية دولية وأحيانا(عربية) بأن الاحتلال قد زال، وكان من تجليات الرواية طرد القذافي للفلسطينيين العاملين في ليبيا؛ فكانت انتفاضة الأقصى في لحظة تاريخية حاسمة لوضع النقاط على الحروف: نحن شعب تحت الاحتلال ونريد الخلاص منه، ولو بفاتورة دماء ودمار باهظة الكلفات.

أعاد الاحتلال سيطرته الأمنية على مناطق (أ)، ما سبب إحباطا وحالة نفسية سيئة لمن عاشوا الأمان النسبي، واندحر الاحتلال بمستوطنيه وجنوده من داخل قطاع غزة، ولكنه حوّل القطاع إلى (كيس ملاكمة) وسجن كبير لا تواصل بينه وبين الضفة الغربية إلا عبر الشروط الأمنية اللعينة الممزوجة بالابتزاز والإذلال.

أما الضفة الغربية الحاضنة للقدس والمسجد الأقصى، فتفرغ لها الاحتلال استيطانا وتهويدا وتنكيلا، ونشأ جيل جديد مطلع بحكم الواقع التكنولوجي على حياة شعوب الأرض الأخرى التي يتنقل أفرادها آلاف الكيلومترات دون اشتراطات أجهزة أمن قوم آخرين، ولهم ما تيسر من الماء والكهرباء والأرض دون خضوع هذه الأشياء الحياتية العادية لتحكم الغرباء الصلفين السمجين.

نعم، قد يتقاتل أبناء شعب ما وقد يختلفون كثيرا، وقد يفقدون أمورا كثيرة ربما نجدها متوفرة تحت الاحتلال، ولكن حالتهم النفسية مختلفة عن نظيرتها لشعب يريد الغازي الغريب إخضاعه، وأن يحوله إلى أفراد معزولين بلا هوية وطنية جامعة... ولهذا فإن محاولات مقارنة الحياة تحت الاحتلال بحياة شعب منكوب بحرب أهلية أو طائفية، أو فساد أو غير ذلك هي مقارنة بائسة لن تجدي في تغيير الحالة النفسية الرافضة للاحتلال، أقله من جيل هو في الحقيقة أغلبية الشعب الواقع تحت الاحتلال.

النفوس لم تعد تطيق الاحتلال. وبناء على التجربة، تدرك أن الخلاص النسبي من الاحتلال لا يكفي، وخاضع لظروف سريعة التغير، وقد يكون مؤقتا، ولا بد من الخلاص، لا سيما أن هذا الاحتلال ربما هو الوحيد في العالم الذي يقوم على الاقتلاع والإحلال، والرواية التاريخية المزورة.