قضايا وآراء

الإخوان المسلمون.. عُقد يجب حلها

1300x600
ذهبنا في مقالة سابقة تم نشرها، بعنوان: هل بدأ ربيع الإخوان المسلمين؟، إلى أن ما تشهده ساحات جماعة الإخوان المسلمين في كثير من الأقطار، يشكل حراكاً داخلياً قوياً، قد يسهم في تأسيس ربيع خاص في الجماعة، بينا بعض تفاصيله وملامحه، وذكرنا بعض مؤشراته ومآلاته.. وحتى نسهم في نجاح الربيع، بأن يؤتي أكله وثماره، فإنني أتابع الكتابة في شأن التنظيم، محاولاً الإشارة إلى بعض المواطن التي يجب تطويرها وإعمال النظر فيها، حتى نكون بذلك عمليين لا منظرين فقط.. ولكن لا بد من مقدمة طللية بين يدي الموضوع، نؤكد فيها أهمية النقد، وضرورته، وتقبله، واحترام صاحبه، وعدم اتهامه.

وأظن أن المدة الزمنية التي قضيتها في ربوع جماعة الإخوان المسلمين، كعضو فاعل، تقلدت فيها بعض المواقع التي أتاحت لي فرصة الاطلاع على كثير من التفاصيل الدقيقة، الخاصة بالتنظيم.. مما أهلني في ما أعتقد لأن أكتب في هذا الموضوع الخطير، دون أن أغادر صفوف التنظيم، فمنهجي الإصلاحي وإن كان يؤمن بضرورة أن يأتي من الداخل، غير أنه في نظري يجب أن يكون مفتوحاً، وفي الفضاء الرحب، لأننا تنظيم دعوة إسلامية، تهم الجميع، من التحق بركبها فعلياً، أو من التحق بأحاسيسه ومشاعره، فقدم الدعم المادي لمؤسساتها، وأعطى صوته الانتخابي لمرشحيها في الانتخات العامة.. أو من لم يلتحق غير أنه يرقب المشهد عن كثب ويتابعه.

الكتابة.. حقل ألغام

الكتابة عن الإخوان المسلمين التنظيم وليس الفكرة منتقداً، وأنت عضو في التنظيم، كمن يمشي في حقل شوك، أو ربما ألغام، ورغم ما يمكن أن يقال فيك، أو ربما ينفجر في وجهك، إلا أنني اخترت هذا الحقل بكل حب وود، معاهداً ربي- سبحانه وتعالى- أن أخلص النية في كل كلمة أقولها، متحرياً صدق النصيحة، ودقة النقد، تصويباً للمسيرة، وسداً لخللها، وتقويماً لاعوجاجها، وبعثاً لحياتها،  وتحريكاً لجمودها، وتخليصاً من أثقالها ومعيقاتها.. وتأييداً لإنجازاتها.

بين النقد والجلد

يرى البعض في النقد جلداً للذات، ولا أراه كذلك، لا بل أراه ضرورة لازمة من لوازم التطوير والتقدم، والإبداع، فالدول التي لا تسجن أصحاب الرأي ومعارضيها ومنتقديها، هي الأكثر تقدماً وتطوراً، وحضارة ورخاءً، في حين أن الأنظمة التي تكمم الأفواه وتصادر الحريات، وتعتبر الرأي يمس السيادة، أو يقوضها، فإنها ترزخ في أغلال الفقر والحاجة والديون والهموم والجهل والتخلف.. ولا تغرنك الأحوال الظاهرة لبعضها.

وأحياناً أجد نفسي مضطراً لاتهام من يصر على خصوصية النقد، زماناً ومكاناً، ومن ثم وسمه بالجلد، تنفيراً للنفوس منه، أنه يأتي ما يخشى أن يكشفه سلاح النقد، فيظهر للعيان تقصيره، وسوء أدائه، وربما سلوكه.

نعم، البعض يناصب النقد العداء، لأنه يراه من زاوية التشهير، وثمة فرق شاسع بينهما، 
فالنقد عادة يأتي من ناقد امتلك بصيرة .. أما التشهير فإنه يأتي من شخص امتلك نفساً خبيثة.. 
?الناقد? صاحب فضل... لأنه يشير للسلبيات ولا يغفل ذكر الإيجابيات الموجودة.. وبملاحظاته تتاح الفرصة أمام المنقود لإعادة النظر في مسيرته.. 

والمشهر? صاحب إثم ووزر... لأنه ينشر السيئات ويكتم الحسنات.. ويعمل على تضخيمها وتهويلها..
النقد في الحقيقة عملة نادرة.... يحاول البعض الإساءة إليها.. لأنهم ليسوا من أهلها...
المشهر... يقبع خلفك، ويسرق النظر إليك خلسة، ويتجسس عليك.. ويعد عليك أنفاسك.. بعكس الناقد...

فالنقد - بغض النظر عن دوافعه- ضرورة للبناء والتطوير،، ومخطئ من رأى النقد وجهاً آخر للهدم،،، 

التنظيم ليس زجاجيا

الأصل في التنظيمات أنها ليست بيوتاً زجاجية أو بلاستيكية تخشى أن تهشمها حجارة النقد الداخلي، أو تحرقها قاذفات حمم النقد الخارجي، التنظيمات التي تمتلك البرامج والرؤى، والخطط، وتسير نحو أهدافها، وتطلعاتها، لا تقف عند الانتقادات، إلا للتأكد من صدقها، وتعمل على الاستفادة منها، في تقويم وتصحيح مسارها.

يتعامل البعض بحذر شديد مع الانتقادات، ويصر على رفضها، أو حصرها في زاوية ما، ولا أعرف سر هذا التعامل، أهو الخوف من الانتقادات؟ أم الحرص على التنظيم؟ أو أن التنظيم فوق الانتقاد؟!

البنا.. التجربة

حين اتخذ الأستاذ حسن البنا - رحمه الله - قراره بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، كان هدفه أن يقدم للناس نموذجاً ينسجم مع فطرتهم الدينية، ويكون عوناً لهم للعودة الراشدة لدينهم، الذي كان يراه مكمن عزتهم، وأصل قوتهم، وأساس حضارتهم ونهضتهم.

فكان خطابه يلامس أفئدتهم قبل آذانهم، ويستقر في قلوبهم ولا يغادرها، ابتعد عن مواطن الخلاف والاختلاف، وركز على الأصول المتفق عليها، ونزل بخطابه كي يلامس عقول الناس وحاجاتهم.. فأقبل الناس على دعوته إقبالاً عز نظيره.

فالتحق بركبه الكثيرون، من مختلف فئات الشعب، وقطاعاته.. فكل هؤلاء وجد في خطاب الرجل ما يسد فراغاً انتظر بفارغ الصبر أن يملأه..

التنظيم.. وسيلة

اطمأنت نفس الرجل لهذه الوسيلة، فعمل على تحقيقها، وتأطيرها، ورآها مناسبة لتحقيق الغاية الكبرى التي يشد رحاله إليها... وحين تبحث في تراثه وموروثه لن تجد ما يشير إلى أن هذه الوسيلة تلغي غيرها، وهذا الاجتهاد ينسخ غيره.. أبداً الرجل كان يرحب بكل الجهود، ويعمل على التواصل معها، لمزيد من التعاون المفضي للإنجاز الحقيقي.

وكانت القاعدة التي أسس عليها الأستاذ البنا جماعته: هي قاعدة الاتفاق والتعاون والإعذار، فلم يضق ذرعاً بالآخرين، ولم يتشدد في الانفتاح عليهم، والتواصل بهم، ولم يحاول أن يحشر الناس في صعيد واحد، ولم يرد أن يجعل الفضاء فضاءً واحداً.

كان الأستاذ البنا - رحمه الله- يصنف نفسه وجماعته على أنه جزء من المسلمين، ويمد جسوراً للتعاون مع كل المسلمين الآخرين أفراداً وجماعات،، فلماذا يخيل للبعض من أبناء الجماعة أن ذهابها يعني ذهاب الإسلام، وأن مصيرها مقترن بمصير الإسلام؟! 

حالة الجماعة

حالة الجماعة اليوم، وما تشهده ساحاتها الداخلية، في كثير من الأقطار، من حراك غير معهود، على شكل خلافات تتطور بسرعة لدرجة الوصول إلى حالة الصراع، ومنه إلى ما يسميه البعض بالانشقاقات.. رغم ما كشفه هذا الحراك الداخلي، من أسرار مدفونة، وخبايا كانت مجهولة لدى عامة المراقبين، الأمر الذي انعكس على نفسيات البعض بالألم والحزن أحياناً، وبالغضب الشديد الذي ظهر في تعبيرات البعض واتهاماتهم للآخرين... وهكذا.

حراك للتحريك والتجديد

ولعلي لا أكون مخطئاً إن أكدت مرة أخرى، ورددت في حق هذا الحراك الذي استاء منه الكثيرون، ووقفوا منه موقف المتشككين والمتهمين والرافضين، ما قاله سبحانه وتعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم".

هذه الرتابة في العمل والتنظيم والمسيرة، التي بلغت تسعين عاماً، أظنها كانت بحاجة لحراك يجدد شبابها، ويبعث حيوتها، ولو اتخذ الحراك شكل الجراحة الصعبة، غير أن الجراحة أحياناً تكون مهمة وضرورية لإنقاذ الحياة، خاصة إذا كانت الأعراض خفيفة.. وغير ظاهرة بشكل واضح، ويحتمل المريض أعباءها، التي تظهر وتختفي.. ولكن عند ظهورها الكبير تكون قد أنهكت الجسد وأدمته..

على كل حال، شخصياً أراه حراكاً مهماً، لن يطول حتى ينحسر عن واقع تنظيمي جديد، استوعب الحياة بكل متطلباتها ولوازمها، والواقع بكل دروسه وعبره، والمستقبل بكل أدواته وتطلعاته، والسياسة بكل دهاليزها ومطباتها.. 

وأظن أن السنوات الطويلة التي عاشتها الجماعة شكلت زاداً إيمانياً صاغ النفوس، وفكرياً شكل العقول، وعاطفيا ملأ القلوب، بأن يعيد ميلاد الجسم الأكبر منها بطريقة جديدة، فيها كل ما نحلم به، وتنتظره منا مجتمعاتنا.. 

وسوف تلتقي السواعد التي نراها تتباعد الآن من جديد لتشكل هيئة جديدة، ذات طموح كبير، وبدم جديد، وعزم بإذن الله كالحديد..  

لكن وقد خضنا غمار هذا الحراك لا بد أن نملك الجرأة في أدب، والقوة في ألق، والإقدام في أمل.. نبسط أيدينا، ونفتح قلوبنا، ونتسامح ونغفر ونتجاوز... بل ونقفز عن الصغائر وما أكثرها.. في سبيل أن نصل للهدف الأعظم والأكبر.. لا نحرق كل سفننا، أو نخرقها.. نبقي على جسور المودة قائمة... فمن صدقت نيته تحققت بإذن الله غايته.. 

وأتمنى فعلاً أن يشهد الحراك مخاضاً حقيقياً، نتخلص فيه من كثير من مواطن الخلل في المسيرة، أسميتها بالعقد، وقد اجتهدت معتمداً على مسيرتي الشخصية، وذاكرتي الفردية، في إحصائها وبيانها.. آملاً أن أجد على هذا الأمر أعواناً وأنصاراً..

وحتى لا تظن...

وحتى لا يظن البعض أني أكتب عن الجماعة وأنا بعيد عنها، فأنا جزء من هذه الجماعة، منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماَ، تشكل ثلثي عمري أو يزيد قليلاً، وتشكل عمري البالغ كله..فإني بت أرى أن الجماعة – في وضعها الحالي- والتي جاءت حتى تحل عقد الناس، وتنقلهم من وضع سيء لآخر أفضل منه، قد باتت مليئة بالعقد الداخلية، التي أورثتها كثيراً من الآفات والمشكلات، فللأسف أصبحت عاجزة عن تجاوز عقدها، وحل مشكلاتها الداخلية، وعليه فإنها ستكون أكثر عجزاً عن تحقيق شيء لمجتمعاتها... ولعلي أجمل أهم العقد التي تعاني منها الجماعة اليوم، وتعد عائقاً كبيراً في سبيل تقدمها وإبداعها، واستئناف مسيرتها، ولنا لقاء في الجزء القادم إن شاء الله.