كتاب عربي 21

هجمات بروكسل وجهاديو أوروبا

1300x600
برهنت هجمات بروكسل في 22 آذار/ مارس 2016 على أن جهاديي أوروبا هم من أكثر الجهاديين خطرا وتطرفا وابتكارا لطرائق العنف والتدمير والترهيب، إذ يشهد التاريخ العنيف للجهادية العالمية أن المشهدية العنيفة الفائقة جاءت من مخيلة جهاديين من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين المسلمين أو من المتحولين للإسلام في أوروبا، وعلى الرغم من التأسيس الإيديولوجي والتبرير الفقهي للمنظرين الجهاديين العرب لأشكال العنف والتنكيل والترهيب، إلا أن تطبيقات العنف المشهدي لجهاديي أوروبا تجاوزت التصورات التقليدية لنظرائهم العرب، فلا عجب أن يصبح الجهادي "جون" وخلفاؤه أيقونة لتنظيم الدولة الإسلامية لتكتيكات الخوف والرعب ومشهدية قطع الرؤوس، ولا غرابة أن تكون خلية هامبورغ خلف مشهدية عاصفة الطائرات وسقوط البرجين في نيويورك 2001، وذات الأمر مع خلية إسبانيا ومشهدية محطة قطارات مدريد في إسبانيا 2004، ومترو لندن في بريطانيا 2005.

في هذا السياق كان أبو مصعب الزرقاوي كأيقونة للعنف والترهيب الجهادي قبلة جهاديي أوروبا وموقع القدوة، فقد ارتبطت تاريخيا معظم هجمات أوروبا بشبكة الزرقاوي أكثر من بن لادن، فقد كان بن لادن أكثر تحفظا وأقل عنفا، الأمر الذي جعل جهاديي أوروبا يلتحقون بتنظيم الدولة الإسلامية كسليل لشبكة الزرقاوي بدلا من جبهة النصرة التابعة للقاعدة، فحدود العنف لدى ورثة الزرقاوي يحدها الخيال، فقد التحقت البلجيكية موريل ديغوك بالزرقاوي في العراق ونفذت عملية انتحارية عام 2005، وهكذا تستعصي المقاربات التفسيرية الأحادية دوافع الجهاد الأوروبي، لكنها تؤكد على طبيعتها الأكثر عنفا ومشهدية وفتكا وابتكارا، الأمر الذي يشير إلى أن مشهدية العنف الأوروبي ذات خلفية حداثية، فالعقل الحداثي الغربي عموما والأوروبي خصوصا يتوافر على قدر كبير من العنف المشهدي.

هجمات بروكسل التي استهدفت المطار ومحطة قطار الأنفاق، أسفرت عن 34 قتيلا على الأقل ونحو مئتي جريح، وقد أعلنت وكالة أعماق التابعة لـ تنظيم الدولة الإسلامية مسؤولية التنظيم عن هجمات بروكسل، وفي تفاصيل العنف المشهدي، قال تنظيم الدولة إن مجموعة من مقاتليه نفذوا هجمات بعبوات وأحزمة ناسفة استهدفت كلا من المطار ومحطة المترو الرئيسية بالعاصمة البلجيكية، وأوضح أن المهاجمين أطلقوا نيران أسلحتهم داخل مطار زافنتم قبل أن يفجروا أحزمتهم الناسفة، وأكد أن الهجوم على محطة مترو مالبيك نفذه شخص فجّر حزاما ناسفا.

لم يكن مستغربا أن منفذي الهجمات المركبة هم من الجنسية البلجيكية وهم الأخوان إبراهيم وخالد بكراوى، ونجم عشراوي، كما لم يكن مستهجنا صلاتهم بصلاح عبد السلام  الذي اعتقل في 18 مارس / آذار لدوره في هجمات باريس التي وقعت في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وأسفرت عن مقتل 130 شخصا، والتي جسدت مشهدا من الرعب والخوف والترهيب، وكان شقيق صلاح الأكبر إبراهيم أحد انتحاريي الهجمات، كما كان عبد الحميد أبا عود أحد عقولها المدبرة.

هجمات بروكسل كما هي هجمات باريس نفذها جهاديون ينتمون إلى الفضاء الأوروبي من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، ممن خضعوا لمنظومة سياسية ثقافية تعليمية فائقة الحداثة، ولا تنظبق عليهم مقاربات الفقر والجهل، ذلك أن جهاديي أوروبا الجدد يتجاوزون المقاربات التفسيرية الأحادية المختزلة لظاهرة الإرهاب، فهم تلقوا تعليما علمانيا صلبا، ومعظمهم يتوافر على مستوى تعليمي جيد، وينتمي معظمهم إلى الطبقات الوسطى، إلا أنهم يعانون من حالة من التهميش السياسي الاجتماعي الثقافي، ويشعرون بامتهانهم كجزء من أمة إسلامية ممتهنة تتعرض للحصار، فمشاعر الانتقام تتجاوز سياسات الهوية والاندماج الفجة، وتدخل حيّز السياسة الأوروبية التي تختزل مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بإلقاء اللوم على مسلميها في ضواحي باريس وحي مولينبك في بروكسل، حيث تتعالى المزايدات السياسية على حسابهم وكرامتهم ونمط حياتهم بين  تيارات اليمين وأعداء المهاجرين والفاشيين والنازيين والسياسيين الإمبرياليين، في سوق الإسلاموفوبيا.

إن ما بدا أنه سياسة ناجحة للتخلص من المسؤوليات المتعلقة بالهوية والاندماج داخل أوروبا، بتحميل مسلميها نتيجة إخفاقاتها السياسية والاقتصادية ومشاكلها الاجتماعية والأخلاقية، بجعلها "كبش فداء"، تكشف عن جيل جهادي يبحث عن الانتقام في سبيل تحصيل الاحترام وتحقيق العدالة كما أشار إيمانويل تود، وإذا كان بعض مرتكبي الهجمات يتوافرون على خلفيات جنائية  تنشد الانتقام بصيغه البدائية نتيجة فشل سياسات الهوية والادماج، فقد وفر تنظيم الدولة إيديولوجية سياسية دينية أكثر عمقا في طبقات الوعي الجهادي الأوروبي جعل من إبتكار الانتقام أكثر رعبا وأشد رهبة.

على الرغم من إيديولوجية تنظيم الدولة المتصلبة إلا أن نهجه الاستراتيجي يتمتع بدرحة عالية من البراغماتية، إذ لم يهاجم التنظيم أوروبا رغم رسائله الإعلامية بدخول روما وحرق الصليب في دابق، وعلى الرغم من وجود أكثر من 8 آلاف جهادي أوروبي في صفوفه بحسب بعض التقارير، إلا أنه لم يتبنى تنفيذ هجمات واسعة إلا بعد مرور أكثر من عام على تشكيل التحالف الدولي ضده، الأمر الذي  استجاب فيه التنظيم لرغبات جهاديي أوروبا بشن حملة إنتقامية، وذلك لتسكين جهادييه الأوروبيون الذين ضاقوا ذرعا بصير التنظيم على ضربات التحالف التي جعلتهم هدفا مفضلا، وتحقيقا لتعطش جهاديي أوروبا للانتقام من سياسات بلدانهم الخاصة بمسلمي أوروبا، وهكذا حمل الإصدار(12) من مجلة  "دابق" الخاصة بالأجانب عنوان (الإرهاب العادل) كي يدشن حملة مشهدية عنيفة لجهاديي أوروبا.

خلاصة القول أن جهاديي أوروبا هم الأكثر عنفا وأشد فتكا، نظرا لتجربتهم العملية ومعاناتهم المزدوجة، وتركيبتهم الهجينة، ذلك أنهم يتوافرون على طبيعة حداثية وثقافية دينية ملتبسة، ويتوافرون على مشاعر عميقة بالامتهان والتهميش، الأمر الذي دفعهم للتخلي عن نمط حياة أوروبية تبدو ظاهريا مثالية ورغدة وتنعم بالحرية والديمقراطية، والهجرة والانخراط في مشروع يعد بتأسيس خلافة إسلامية تتحقق فيها الكرامة رغم مشقة الحياة وصعوبة العيش وغياب الأمن، وفي الوقت الذي غادر جهاديي أوروبا بلدانهم، ربما على أمل العودة فاتحين كأسلافهم، لم تمهلهم طائرات التحالف فتبعتهم إلى أرض خلافتهم وباشرت قصفهم على أمل إبادتهم، وهكذا جاء انتقامهم بتجاوز الحدود في موسم الهجرة إلى الشمال عازمين على الانتقام.