قضايا وآراء

الانتخابات البلدية.. حجر صغير في المياه الفلسطينية الراكدة

1300x600
أدى قرار إجراء الانتخابات البلدية المقررة في تشرين الأول/ أكتوبر القادم إلى إضفاء حيوية لافتة على الساحة الفلسطينية. القرار نفسه لم يكن مفاجئاً، إلا أنّ المفاجأة السارّة جاءت من حركة حماس التي وافقت على المشاركة في الانتخابات، وبالتالي إجرائها في الضفة وغزة معاً، بعدما كانت رفضت ذلك قبل أربع سنوات، أي في العام 2012.

قرار إجراء الانتخابات لم يكن مفاجئاً؛ لأنها توقفت مرة واحدة فقط (2008) بعد الاقتتال، وأجريت قبل أربع سنوات (2012) في الضفة الغربية فقط، والقرار الأخير يمكن وضعه في عدة سياقات طبعاً. فالسلطة تريد إضفاء مزيد من الحيوية على المؤسسات والحياة السياسية بشكل عام، وحصد مزيد من الشرعية لها أمام إسرائيل والمجتمع الدولي، خاصة مع تركيز وزير الدفاع الجديد أفيغدور ليبرمان على هذه الجزئية وزعمه بافتقاد مؤسسات السلطة للشرعية الديموقراطية، نتيجة لعدم إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية لعشر سنوات تقريباً.

لا يمكن طبعا استبعاد الرغبة في شد عصب حركة فتح وتوحيد صفوفها، وفي الحدّ الأدنى سعى الرئيس عباس لتقديم نفسه كراع أو حكم بين التيارات والشخصيات المتنازعة في الحركة، ومظلة جامعة لها، وأعتقد أن ثمة سعيا أيضاً لتهميش تيار القيادي السابق محمد دحلان، والسعي لإخراجه، ليس فقط من المشهد الفتحاوي، وإنما حتى من المشهد السياسي العام.

إلى ذلك، لا يجب تجاهل احتمال تفكير أحد ما في السلطة أن حماس سترفض المشاركة، كما فعلت قبل أربع سنوات، وبالتالي ستجري الانتخابات في الضفة فقط، وتكون المنافسة مريحة هادئة دون تشنج على الأرض الفتحاوية حصراً، حتى مع اختراق من هنا أو من هناك.

الموقف اللافت والمفاجئ جاء من حماس طبعاً، وهي قبلت ما كانت رفضته قبل أربع سنوات؛ لأنها اعتقدت آنذاك، أو على الأقل قيادة الداخل فيها (غزة)، أن الأمور تسير لمصلحتها، ولا داعي لتقديم أي تنازلات، والإصرار على تنفيذ وثيقة القاهرة للمصالحة وفق شروطها وتصوراتها المتشددة، خاصة في سياقها الأمني، بينما فهمت قيادة الخارج أن مشروعية الحركة الإقليمية والدولية مرتبطة أساساً بانخراطها الجدّي في المؤسسات الفلسطينية والمصالحة مع حركة فتح.. والسجال العلني الذي وقع حول إعلان الدوحة شباط/ فبراير 2012 اختصر التباينات السابقة. للأسف انتصرت فكرة مقاطعة الانتخابات البلدية وربطها بالحزمة الكاملة لإنهاء الانقسام، رغم أنها مثلت فرصة مهمة للمضي قدماً في المصالحة في ظل الأجواء المتفائلة التي أشاعتها الثورات العربية والتي لن تتكرر أقله في المدى المنظور.

الوضع اختلف الآن، والحركة تشعر أنها في وضع أضعف، وهي وافقت على إجراء الانتخابات في الضفة وغزة والمشاركة فيها، لعدة أسباب، منها إضفاء شرعية على الواقع القائم هناك، بما في ذلك قضية الموظفين الحساسة، والتي باتت بمثابة عائق أمام المصالحة وإنهاء الانقسام. ومن الأسباب أيضاً؛ الأمل في أن تؤدي الانتخابات إلى رفع الحصار أو على الأقل تخفيفه، عبر ضخ مزيد من المساعدات الدولية إلى المجالس البلدية المنتخبة.

قرار إجراء الانتخابات أدى إلى هزة إيجابية، ولو محدودة في الساحة الفلسطينية، ومع إكمال لجنة الانتخابات المركزية عملها بمهنية وكفاءة. كما هي العادة، بدا لافتا أن الفصائل تكاد تخرج عن طورها لنفي الطابع السياسي عن الانتخابات وتكريس الطابع البلدي والمحلي لها، وهو كلام صحيح طبعا ولكن بشكل نسبي وليس مطلقاً، فالانتخابات محلية تتداخل فيها العوامل العائلية العشائرية المناطقية، ولكن لا يجب أن يتم إغفال الطابع أو البعد السياسي لها، ولو بتقديم فكرة عامة عن المزاج السياسي للشعب الفلسطيني.

ومع ذلك، فإن البلديات الكبرى الثلاث، في الخليل ونابلس وغزة، سيكون التنافس فيها سياسيا بامتياز، وستحضر فيه شخصيات وازنة وقوائم متنافسة ستكون مدعومة بوضوح ودون مواربة من حركتي حماس وفتح، مع حضور ما لليسار وغياب للجهاد، كما هو معتاد في السنوات الأخيرة.

حركة فتح قالت إنها ستشكل لوائح مختلطة من داخل وخارج الحركة، وستضم حزبين ليسوا من الصف الأول غالباً، مع كفاءات وشخصيات وطنية، مع انفتاح على التفاهم مع عائلات والعشائر. وثمة قرار بمنع أنصار دحلان من الترشح وإجبار المتعاطفين معه على دعم لوائح الحركة الرسمية، أو مواجهة الاتهامات المعروفة بشق صفوف الحركة، والنيل من وحدتها وتماسكها أمام منافسيها.

حماس من جهتها لا تملك هامش الحرية المتاح أمام فتح لعوامل عدة أمنية أساساً في الضفة، وسياسية في غزة نتيجة للواقع المأساوي الذي يعيشه القطاع، وهي ستكون حريصة على تشكيل قوائم من شخصيات مستقلة وكفاءات مهنية، وتطلب من جمهورها دعمها أو التصويت لها بشكل واضح صريح. ربما يختلف الوضع في البلديات الكبرى، خاصة بلدية غزة، إلا أنها حماس ستكون حذرة تجاه إيصال شخصيات حزبية أو حتى شخصيات مقربة جداً منها للمجالس البلدية، خشية مقاطعتها أو التضييق عليها من قبل المانحين الدوليين، وحتى مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية المضطرة للتعاطي مع المنظومة المصرفية الدولية.

أما اليسار، ومع التأكيد على الطابع المحلي البلدي للانتخابات، فهو يتحدث كعادته عن تشكيل لوائح موحدة لفصائله الخمسة (الشعبية، الديموقراطية، المبادرة، فدا، والشعب)، وفي ظل التراجع الصارخ في شعبيته وجماهيريته كما تبدى في الانتخابات الطلابية، كما في المزاج الشعبي العام الذي تظهره الاستطلاعات (هيمنة لفتح وحماس مع طريق ثالث لا يملؤه أحد)، فإنه إذا ما نجح في إنزال لوائح موحدة خاصة في المجالس البلدية في المدن (لا حضورا قويا في الأرياف طبعاً)، فربما يعيد فرض نفسه كلاعب مركزي و أساسي في الساحة الفلسطينية وممثلاً ما يشبه بيضة القبان بين فتح وحماس.

حركة الجهاد الإسلامي لم تعلن موقف نهائيا حتى الآن، وهي تميل لعدم المشاركة. وهذا ما سيحدث غالباً، رغم أنها شاركت في الانتخابات البلددية التي أجريت قبل 11 عام، واعتبرتها آنذاك خدماتية ولمصلحة الناس ولا تحمل طابعا سياسي مباشرا، كما الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي قاطعتها طوال الوقت. ولكن المقاطعة هذه المرة تعود إلى افتقاد الحركة لأطر تنظيمية جدية، خاصة في الضفة الغربية، وهي عجزت في السنوات الثلاث الماضية حتى عن تشكيل لوائح في الانتخابات الطلابية في جامعات الضفة، بينما فعلت ذلك المبادرة وحتى جبهة النضال الوطني. وإضافة إلى ذلك، لا تريد قيادة الحركة في الخارج انكشاف شعبيتها المتدينة في الداخل والتي تتراوح بين 3 إلى 4 في المئة تقريبا، وعجزها رغم الظروف المواتية عن تقديم بديل أو خيار ثالث جدي وحقيقي للناس بعيدا عن ثنائية فتح وحماس.

عموما، لن تكون الانتخابات البلدية، على أهميتها، أكثر من حجر صغير في مياه الانقسام الراكدة، وبالتأكيد لن تخلق سيرورة تؤدى إلى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المرتبطة عضوياً ومباشرة بكل أدوات الانقسام وعوامله، مثل الموظفين، والحكومة، والأمن، والمعابر، والحصار، وإعادة الإعمار. وللمفارقة، فإن إجراء الانتخابات البلدية في حد ذاته يعبّر نفسيا وسياسيا عن قناعة أو رضى بالواقع الحالي، وأن الإرادة للمصالحة مفتقدة لدى الطرفين، وإن بدرجات متفاوتة، أقله في المدى المنظور، ولا بأس بالتالي من العمل على تقطيع الوقت وملء الفراغ، وفي الحد الأدنى إبقاء الأمل قائما بتحقيق المصالحة في يوم من الأيام.