كتاب عربي 21

اليسار الفلسطيني المتخيل!

1300x600
لا غرابة في أن صعود التيار الإسلامي عربيّا منذ سبعينيات القرن الماضي، كان متزامنا مع الانهيار الكامن لليسار العربي، في السياق نفسه الذي بدأ فيه العالم بالتغير في ذلك العقد، وهو الأمر الذي أعلن عن نفسه بوضوح مع انهيار الاتحاد السوفياتي الذي اتخذت منه فصائل اليسار الفلسطيني –عموما- المعنى الذي تستمد منه نرجسيتها ومبررات وجودها ومادة مقولتها ومبتدأ سياساتها.

لم يكن الانهيار مقتصرا على البنية السياسية التي مثلتها تجربة الدولة في الاتحاد السوفييتي، ولكن الانهيار شمل النموذج نفسه، وبدأ اليسار يتغير في كل التجارب الثوريّة التي كانت هي بدورها أيضا معنى يستمد منه اليسار الفلسطيني نرجسيته ومبررات وجوده، وصخبه الإيديولوجي الطفولي الأقرب إلى المشاغبة في العلاقات الوطنية والنضالية والسياسية، والأبعد عن الوعي الجمعي للفلسطينيين، وقد عجز تماما عن تكييف الماركسية وتبييئها فلسطينيّا.

ومبكرا جدّا كانت أشهر ممثليات الأرثوذكسية الماركسية فلسطينيّا، وطليعة الانشقاقات باسم الإيديولوجيا وبناء الحزب الثوري وتمثّل النظرية الثورية اللينينية والقطيعة مع اليمينية والبرجوازية؛ تتحول سريعا إلى "دورية استطلاع يسارية لليمين الفلسطيني"، على حدّ تعبير عدد من مناضلي تلك الحقبة، وذلك حينما تولت "الجبهة الديمقراطية" مسؤولية الترويج لما عرف حينها باسم "مشروع النقاط العشر"، وهو الخدعة التي انتهت بعد عشرين سنة إلى السلطة الفلسطينية القائمة.

عموما في العالم العربي كله، لم يعد اليسار أطروحة ثورية في مواجهة السلطات المستبدة، فقد تحول إلى ملحق ذيلي بالسلطة، وحاجة تحالفية تلزم السلطة، تستخدمها إن كانت موجودة أو تبتدعها إن لم تكن موجودة، وهكذا كان حال قوى يسارية تاريخية تحالفت مع السلطة في مصر وسوريا والأردن وتونس والجزائر وغيرها.

وحتى قبل هذا التحول إلى ملحق بالسلطة السياسية العربية، فإن موقف الممثل الرسمي العربي للشيوعية، أي الأحزاب الشيوعية العربية الموالية للاتحاد السوفياتي، بما في ذلك الحزب الشيوعي الأردني الذي ضمّ شيوعيي الضفتين؛ كان الأقرب إلى القبول بالمشروع الصهيوني في فلسطين.

يُذكّر ذلك بمقولة لياسر عرفات، كان قد ردّ بها على المزايدات اليسارية في أواخر ستينيات القرن الماضي، حينما قال: إنّ "فتح أكثر يسارية من اليسار، إذا كان المقصود باليسارية الموقف من الحل السلمي"، وهكذا كان اليسار يتفرغ من محتواه بالتدريج.

اليسار الفلسطيني، الذي كان جزءًا من الثورة الفلسطينية ولا يُنكر دوره سابقا في الحركة الوطنية الفلسطينية، فشل في ابتكار نظرية ثورية أصيلة في أيام عنفوانه وصعوده الكبير، مستندًا إلى فذلكات إيديولوجية تغفل عن المعطيات الخاصة بالشعب الفلسطيني، فشل كذلك في تعديل مسار الحركة الوطنية الذي تحكّمت فيه قيادة حركة فتح، (أي القيادة اليمينية المنحدرة من البرجوازية الصغيرة بحسب تعريفات اليسار الطفولي).

ثم فشل هذا اليسار الذي انقسم على نفسه عشرات المرات، في تجميع أطيافه لخلق تلك القوة الثالثة التي تكسر احتكار حماس وفتح للمشهد الفلسطيني، ثم هو قبل ذلك وأثناءه كان يخسر دوره ومكانته وحجمه وتأثيره، حتى صارت نتائجه في أي انتخابات تمثيلية عامة أو نقابية أو طلابية على النحو المعروف، ولم تعد بعض فصائله سوى يافطات من التاريخ السحيق تعلق على مداخل المكاتب، ولكنها تُمثّل أيضًا –يا للعجب- في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

فقد اليسار الفلسطيني مقولته الماركسية، ولم يعد أحد فيه يرطن على نحو جَدّي بالمادية الجدلية والمادية التاريخية، كما فقد ادعاءاته الاجتماعية حينما اخترقت الأطروحات الليبرالية مفهومه اليساري، وبات الأكثر استفادة من مؤسسات المجتمع المدني الممولة من الدول الاستعمارية والرأسمالية.

موضوعات الهويات الفرعية، والجنس والمرأة، ونقد الإسلام من منطلقات ليبرالية طفولية (وكأن الطفولية قدر "يسارنا العتيد" من الماركسية إلى الليبرالية)، والعداء للإسلام؛ صارت أطروحات شبابه الأكثر رواجًا، وربما لم يبق من الماركسية إلا بعض التهويمات الإلحادية لا أكثر.

مجرد ملحقات سلطوية فلسطينيّا، وإذا كان في هذا "اليسار" من يعمل للحفاظ على إرثه ويحاول المساهمة نضاليّا كما هو حال بعض كوادر الجبهة الشعبية، فإنّ مقاربته الخارجية سلطوية صرفة، في لحظة تحول تاريخي صار فيها الإسلاميون في مواجهة السلطة، و"اليسار" إحدى أدواتها، في لحظة كشف بالغة عن ذهنية فريق معوّقة بالاغتراب والشعور الدائم بالنقص الجماهيري، وبالجشع السلطوي.

وإذا أمكن فهم الادعاء الذي يبرر موالاة هذا الفريق الفلسطيني لبشّار الأسد، بحجة أن الأخير دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، فإنه يَسقط تمامًا في تولّيه عبد الفتاح السيسي، الأقرب إلى "إسرائيل" من بين كل حكام مصر، والمعادي للمقاومة الفلسطينية، والمحاصر لقطاع غزّة، والقادم على براميل النفط الخليجية المعبأة بالدولارات (على أساس أن البترودولار مصطلح تعييري أثير لدى هذا الفريق)، وهو في كل الأحوال مخلوق رأسمالي، خاضع للمؤسسات النقدية الدولية!

العامل الذي يؤسّس لمثل هذه المقاربة، هو عامل نفسي خالص، يتمثل في كراهية الإسلاميين، والهوس بالتمايز المحمول على نزعة نرجسية بالية، وكأن هذا "اليسار" يملك حقّ التصنيف على أساس المقاومة والعداء للاستعمار، وكأنه غير منعدم الدور المقاوم راهنا قياسا بالإسلاميين، ولا يعتاش على الأعطيات السلطوية وموارد الـ (إن. جي. أوز) الاستعمارية، ولا يتورط في تأييد شخص قد جمع العار من كل أطرافه، ألا وهو عبد الفتاح السيسي!

إنها حالة من العيش الذهني في الاسم، تفرز خبلا نفسيّا يتجلّى في تلك المواقف التي تزايد على الإسلاميين، لمجرد معارضتهم لبشار الأسد أو لعبد الفتاح السيسي، إذ لم يبق من هذا "اليسار" سوى الاسم القادم من حقبة تاريخية ماضية، دون أن يُعبّر عن أي مضمون جدّي، أو حقيقة فعلية خارج الذهن المشوش بهوس الادعاء الخاوي!