كتاب عربي 21

الظواهري والصراع المتوهم على تركة البغدادي

1300x600
لا جدال بأن تنظيم القاعدة تحت قيادة الظواهري لا تشبه القاعدة بزعامة أسامة بن لادن. ففي الوقت الذي كانت قاعدة بن لادن "أيقونة" للجهاديين ونموذجا إرشاديا للجهادية العالمية تسعى الحركات والجماعات الجهادية كافة لنيل مباركته والحصول على شرف الانضمام لبنيته والانضواء تحت قيادته، فإن قاعدة الظواهري تفتقر إلى شرعية تمثيل الجهاد العالمي. 

وعلى خلاف بن لادن الذي تمكن بشخصيته الكاريزمية من الحفاظ على منظمة بيروقراطية متماسكة، وخطاب إيديولوجي صلب؛ فإن الظواهري فشل في الحفاظ على وحدة التنظيم، وكثرت في عهده الانشقاقات، وتنامت ديناميكية التمرد والعصيان وشهدت خطاباته تناقضات وتحولات واضطرابات.

في الوقت الذي يتعرض فيه تنظيم الدولة الإسلامية بزعامة أبو بكر البغدادي لحرب كونية شاملة، وبينما التنظيم منشغل في صد هجمات التحالف الدولي بقيادة أمريكا التي يصفها الظواهري عادة بالصليبية، وقوى إقليمية ومحلية شيعية ينعتها الظواهري عادة بالفارسية المجوسية الرافضية، وقوى عربية إسلامية يشدد الظواهري على رميها بالكفر والردة والعمالة، ظهر الأخير في كلمة جديدة بثّتها مؤسسة "السحاب"، بعنوان "رسالة لأمتنا: لغير الله لن نركع" في 5كانون الثاني/ يناير الماضي، هاجم فيها تنظيم الدولة الإسلامية والبغدادي. 

وانشغل الظواهري بدفع ما أطلق عليها حملة تشويه وتخويف وتنفير شُنت على "المجاهدين"، وكان ممن شارك في هذه الحملة، بحسب الظواهري، كذابو أبو بكر البغدادي، واتهم البغدادي بالكذب والافتراء لتشويه صورة القاعدة ونشاطها، مؤكدا أن الأولوية في "الجهاد" يجب أن تكون لضرب أمريكا.

يبدو أن قراءة الظواهري لأوضاع الجهادية العالمية في غاية التشوش والبلبلة وتتلبس بحالة إنكار جعلته لا يدرك أن زمن تنظيم القاعدة انتهى، وأن العالم يعيش زمن تنظيم الدولة الذي بات "نموذجا مفضلا" للجهاديين الجدد، لكن خطاب الظواهري يستند إلى قراءة رغبوية تتنبأ بأفول ونهاية تنظيم الدولة الإسلامية لترثها القاعدة في نسخة جديدة للتنظيم. 

ولذلك، فإن الظواهري لم يتحدث في كلمته عن أي مشاعر للتضامن وأي رغبة بالمصالحة مع التنظيم وشن حملة لا هوادة فيها عليه وعلى البغدادي دون أن يأتي على ذكر ما آل إليه حال تنظيم القاعدة وفروعه من التفكك والضعف والانهيار.

في سعيه لإعادة ترميم وإحياء تنظيم القاعدة على حساب تنظيم الدولة؛ وقع الظواهري في شراك تنظيم الدولة الإسلامية، وأصبح يناهض تنظيم الدولة بالوقوف على أرضيتها، الأمر الذي جعل خطابه حافلا بالتناقضات. 

فبدل أن يؤكد على مغايرة خطاب القاعدة لخطاب الدولة، فإنه يتماهى معها، في الوقت الذي يدعي فيه مناقضتها ونقدها، فهو يقول إن الكذاب (أبو بكر البغدادي) زعم بأن القاعدة لا تكفر بالطاغوت، وتلهث خلف الأكثرية، وتمدح (الرئيس المصري المعزول) محمد مرسي، لا بل ودعت لإشراك النصارى في الحكم،  وأضاف أن أتباع البغدادي زعموا أن القاعدة لا تكفّر الشيعة.

هكذا، فإن الظواهري بدلا من أن يقول نعم نحن نؤكد على خلافنا مع تنظيم الدولة في القضايا السابقة، يدعي أن القاعدة كانت منذ نشأتها تتبنى تلك المسائل، وهو لا شك غير صحيح إطلاقا. 

فتلك المسائل وغيرها كانت من القضايا الخلافية مع تنظيم الدولة منذ شبكة الزرقاوي حتى دولة البغدادي، ومنذ مقتل مؤسس القاعدة أسامة بن لادن في عملية للقوات الخاصة الأمريكية في باكستان في 2011، الذي تزامن مع ثورات الربيع العربي. 

دخل تنظيم القاعدة في سياق تحولات للتأقلم والتكيّف مع الأوضاع الجديدة، ومع فشل عملية التحول الديمقراطي تناقضت اجتهادات القاعدة، وأصبحت ترتكز على بناء تحالفات مع قوى ثورية وجهادية إسلامية، وتبدلت أولوياتها من مواجهة أمريكا إلى الصراع مع الأنظمة المحلية. 

وصرحت قيادات الفرع الأنشط للقاعدة في سوريا عبر جبهة النصرة، عن تخليها عن مواجهة واستهداف أمريكا والغرب بأي عمليات خارجية، وحصر أولويتها بالقتال في سوريا، ونسج علاقات مع القوى المحلية، الأمر الذي تكرر مع فرع القاعدة في اليمن والمغرب الإسلامي وحركة شباب المجاهدين.

يحاول الظواهري في خطابه استعادة خطاب قاعدة بن لادن في زمن مختلف، إذ إن "رسالة لأمتنا: لغير الله لن نركع" التي كانت عنوان خطابه، تنتمي إلى حقبة مغايرة كانت القاعدة فيها تعتبر نفسها طليعة الأمة. 

لكن خيال الظواهري المتعلق بالأمة ينتمي إلى أمة متخيلة لا ترى فيه تمثيلا لتطلعاتها المتعلقة بالدولة والمجتمع، وحتى أقرب الجماعات للظواهري مثل جماعة الإخوان المسلمين وحركة أحرار الشام تحمله مسؤلية تفريق وتشتيت الأمة. 

بل إن الجولاني فك ارتباطه بقاعدة الظواهري، وأسس جبهة فتح الشام بمباركته وتزكية مساعدية مثل أبي الخير وأبي الفرج المصريين ومع ذلك اعتبر الظواهري  أن المطالبات بإبعاد القاعدة عن سوريا "واهية".

لقد كشف الظواهري في كلمته عن حجم التناقض والاختلاف داخل تنظيم القاعدة وفروعه، ففي معرض رده على الأصوات المنادية بإقصاء "القاعدة" بحجة إبعاد تصنيف "الإرهاب" عن فصائل سوريا، قال الظواهري: "كأن رضا أمريكا هو المقصد أو طريق النصر في الجهاد، وكأن القاعدة صارت مجرمة لأنها تعادي أمريكا وأعوانها الفاسدين في ديارنا، وكأن أمريكا لا تبيد المسلمين قبل نشأة القاعدة وبعدها". 

وكأن الظواهري يشير إلى عدم رضاه عن فك ارتباط النصرة بالقاعدة، وهي حقيقة ظهرت من خلال رفض عدد من القيادات لتلك القرارات كأبي جليبيب وأبي بلال وأبي همام، وغيرهم.

لا يبدو الظواهري في كلمته الأخيرة سوى مراقب وموجه إيديولوجي لا صلة له بتنظيم القاعدة وفروعه، فهو لا يصدر أوامر وتوجيهات بل يحرض ويأمل ويرجو. 

فهو يوجه خطابات عامة لأمة متخيلة، إذ يدعو إلى إحياء الجهاد لتحرير الأمة المسلمة من احتلال الكفار، بحسب تعبيره، معتبرا أمريكا وحلفاءها الهدف الأول، مستعرضا ما أطلق عليه جرائم ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية، غير متعلقة بتنظيم القاعدة، مثل إبادة نحو خمسة ملايين فيتنامي، وإلقائها قنبلة ذرية على اليابان، وقتلها نحو 60 ألف ألماني في هامبورغ بليلة واحدة، وغيرها.

الظواهري كما لو كان في درس افتتاحي جامعي لدحض نظرية المؤامرة، ودفع التهم عن تنظيم القاعدة، فهو يقول: "ورمى أصحاب الأغراض الكذابون القاعدة بمختلف أنواع العمالة، فقالوا إننا عملاء أمريكا صنعتنا في أفغانستان إبان الغزو الروسي لها، وأننا عملاء السعودية صنعتنا بأموالها، واتهمنا الرافضة الصفويون الجدد بأننا عملاء أمريكا وإسرائيل، وبحت أبواقهم كذبا؛ بأن غزوات الحادي عشر من سبتمبر مؤامرة صهيونية، وأنها ذريعة للهجوم الأمريكي على إيران، الذي لم يقع بعد خمس عشرة سنة من الغزوات، بل توطدت العلاقة بينهما، وصارا حلفا على المسلمين في أفغانستان وجزيرة العرب والشام، واتهمتنا أبواق بوابي وخدم القواعد الأمريكية في الخليج بأننا عملاء إيران نحقق مصالحها، وأخيرا حذروا منا لأننا أعداء أمريكا، ومن يسير معنا يرث جرائمنا".

يقع الظواهري في سياق محاولة إثبات شرعية القاعدة في معضلة تاريخية إيديولوجية وأخلاقية، ففي معرض نزع شرعية تنظيم الدولة والبغدادي، يقول إن شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي هي القدوة لدى "متقاعدي ضباط جيش صدام واستخباراته الذين عقدوا الخلافة لإبراهيم البدري، الذي كان يقتل من لا يشهد على نفسه بالكفر من خصومه في الكوفة"، لكن الظواهري إبان حقبة قاعدة بن لادن كان لا يمل عن دفع الاتهامات عن ذات التنظيم، والزعيم ويكيل المديح لتنظيم الدولة وذات الرجال، ويهاجم من حارب التنظيم باعتبارهم صحوات وعملاء.

أعتقد أن الظواهري في كلمته يكشف عن خلل كبير أصاب تنظيم القاعدة بزعامته لا بسبب فقدان شرعيته عند تنظيم الدولة الإسلامية فحسب؛ وإنما بسبب تناقص شرعيته لدى تنظيم القاعدة وفروعه في المقام الأول. 

فقد تعالت الأصوات بين أتباعه وأنصاره باتهامه بعدم القدرة على مواجهة تنظيم الدولة والتردد في تعامله وعدم الحسم في مواقفه، وعجزه عن الحفاظ على جاذبية القاعدة، والقدرة على الاستقطاب، وفقدانه السيطرة على فروع التنظيم، الأمر الذي دفعه إلى سرد دليل عمل و"ميثاق شرف" تنظيم القاعدة وأهدافه، التي من أهمها تحكيم الشريعة، وتوحيد الأمة، وفك الأسرى وغيرها، والتشديد على أنها مبادئ تم وضعها بعد مشاورة الفروع كافة، لتحميلهم المسؤولية.

بدت شرعية الظواهري منقوصة لدى أتباع وأنصار القاعدة قبل غيرهم، ففي الوقت الذي كان يمكن للظواهري أن يستعيد شيئا من جاذبية القاعدة من خلال استدعاء كاريزما أسامة بن لادن بتعيين نجله حمزة بن لادن الذي وضعته الولايات المتحدة مؤخرا على لائحة الإرهاب، ففي العام الماضي، قّدم أيمن الظواهري حمزة على أنه "ابن أسد الجهاد" قبل أن يمرر خطابه الذي أطلق من خلاله نداء إلى شباب الإسلام للقتال ضد "الأميركيين واليهود وبقية الغرب". 

لكن الظواهري أظهر عجزه عن فهم التحولات، وعدم سيطرته على القاعدة، فالتنظيم الذي كان يستند في هياكله التنظيمية وطموحاته الأيديولوجية على السعوديين والمصريين، أصبح في عهد الظواهري مصريا، حيث فوجئ الجميع بالإعلان عبر المنارة البيضاء وهي المنصة الإعلامية لجبهة النصرة عن كون نائب الظواهري هو أبو الخير المصري. 

والمفارقة أن الإعلان لم يكن من خلال مؤسسة السحاب.

لقد كشفت خطوة فك ارتباط النصرة بالقاعدة عن مدى الضعف والهشاشة داخل قاعدة الظواهري، وأظهرت صراع الأجنحة والقيادات والأصول والجنسيات، ولم تعد ثمة إمكانية لاستخدام ورقة بن لادن والخط السعودي ممكنة.  

وكان قبل ذلك يمكن أن يكون حمزة بن لادن "الوجه الجديد لتنظيم القاعدة" الذي كانت خطاباته الأخيرة تستعيد صورة والده، ففي تموز/ يوليو الماضي، جاءت كلمته متطابقة مع كلمات أبيه، حيث قال: "تنظيم القاعدة سيواصل شن هجماته داخل البلاد وخارجها، ردا على القمع الذي يعاني منه شعب فلسطين وأفغانستان وسوريا والعراق واليمن والصومال وباقي بلاد المسلمين"، وكان حاسما حين هدد أمريكا والغرب وتوعد بالثأر لمقتل أبيه، أسامة بن لادن.

خلاصة القول، إن الظواهري بدا في كلمته غير قادر على فهم التحولات وانشغل بالدفاع عن خياراته، رغم قوله إن القاعدة ليست وحيا منزلا، وبدا في حالة نرجسية منشغل بذاته وسمعته، وحمّل الآخرين من تنظيم الدولة ومن قاعدته مسؤولية تفكك وضعف التنظيم، إذ لم يأبه بالحملة التي يتعرض لها تنظيم الدولة الإسلامية، ولم تشغله هزيمة جبهة فتح الشام وأحرار الشام وبقية فصائل المعارضة وخروجها من حلب، ولم يأت على أحوال فروعه المتداعية في اليمن والمغرب وغيرها التي تعاني حالة من التشتت وفقدان الفعالية. 

وأما الأمة التي يدعي الظواهري تمثيلها، فقد غابت وانطوت في ذاته التي أصبحت تكافئ حضوره وإطلالته الصوتية. 

فهل ننتظر كلمة أخرى؟ لا أعتقد ذلك.